قصة رسمها شاب عراقي في أحلك ظروف الوباء.. أحمد الصكيري ينذر نفسه وماله لإنقاذ المرضى

3٬545

سرمد ارزوقي /

هنالك جنود مجهولون غير الذين نسمع عنهم, هم أولئك الذين نذروا أنفسهم وأموالهم ووقتهم لتأمين خدمة يحتاجها الناس في زمن جائحة كورونا. وما (أحمد الصكيري) إلا واحد من عشرات الجنود الذين لم يسلط ضوء الإعلام عليهم, أو هو من الذين لا يفصحون عن أعمالهم ابتغاء مرضاة الله، والشعور بالسعادة عندهم مقترن بتقديم الخير.
الشاب الثلاثيني من مدينة الكاظمية الصكيري أحمد مرّ بموقف صعب جداً عندما أصيب أحد أقاربه بفايروس كورونا المستجد وأصبح مستوى الأوكسجين عنده صفراً وكاد أن يفارق الحياة لولا ظهور أحد المتبرعين في اللحظات الأخيرة بأسطوانة أوكسجين وهبته الحياة فنجا من الموت. عندئذٍ قرر أحمد أن ينذر نفسه وجهوده الشخصية وماله وسيارته (البك أب) لشراء الأوكسجين وتوزيعه على المستشفيات والحالات الخاصة والفردية والمنازل لإنقاذ أرواح الناس, وقصصه لا تنتهي بدءاً من قصة الشاب عثمان الأعظمي, ثم صار الناس من أبناء المحافظات الغربية والجنوبية يطرقون بابه للحصول على الأوكسجين أيام المحنة التي عصفت بالعراق في ذروة إصابات كورونا قبل أشهر خلت.
مجلة “الشبكة العراقية” التقت أحمد الصكيري للحديث عن تجربته التي مازال مستمراً فيها رغم توفر الأوكسجين اليوم.
سألناه عن الدافع الذي جعله يخوض تلك المعركة الحقيقية وإصراره على الانتصار فيها، صمت لبرهة ثم قال: (مهدي)، ابن عمي وأخي ورفيق طفولتي، ابتلي بهذا المرض ووصل مستوى الأوكسجين عنده إلى ما يقارب الصفر، فطرقت جميع الأبواب بحثاً عن أسطوانة لإنقاذه من الموت المحقق، فظهر متبرع في اللحظات الأخيرة، وأُنقذت حياته بالتفاتة إنسانية بحتة.
وبعد أن تماثل للشفاء فكرت في الناس البسطاء الذين لا يملكون ثمن تلك القنينة، فقررت أن أخوض التجربة في مساعدة المرضى بغض النظر عن الانتماء أو الدين أو المذهب أو العرق، وقد استطعت أن أجمع ما يقارب الألف أسطوانة من مالي البسيط ومن متبرعين محسنين، ونشرت إعلاناً في موقعي على الفيسبوك يحمل رقم هاتفي، الذي لم يصمت مطلقاً على مدار الساعة منذ نشره، حتى وصل الحال إلى استقبالي مناشدات من جميع مدن بغداد وضواحيها فضلاً عن المحافظات الغربية والجنوبية.
عائلة عراقية…
(أم عمر)، أرملة تقيم في مدينة الأعظمية، حي السفينة تحديداً، (رفضت التقاط الصور لها ولأبنائها) تقول: أنا أم لثلاثة أولاد وبنت: عمر وعثمان وعائشة وبكر، وقد أصيب ابني الأوسط عثمان (22عاماً) بهذا الفايروس، وصرت لا أعرف ماذا أعمل وإلى أي طريق اتجه، وأنا أشاهد بأم عيني معاناة ولدي الذي سيضيع مني في لحظة، ووجدت منشوراً على الفيسبوك مع رقم هاتف لشخص يساعد الناس اسمه أحمد الصكيري يقدم لهم أسطوانات الأوكسجين مجاناً. لم أصدق ذلك إلا بعد أن اتصلت به، وحصلت منه على أسطوانة الأوكسجين التي أنقذت ولدي، بل بقي على تواصل معي حتى وصل عدد الأسطوانات التي حصلت عليها منه لحين تماثل ولدي عثمان للشفاء إلى سبع أسطوانات، ولا أملك إلا الدعاء لهذا الشاب الذي كان سبباً في سعادة عائلة كادت أن تفقد أحد أبنائها.
المشكلات والمعوقات
المشكلة الكبرى كانت في تأمين مبالغ ملء الأسطوانات، فكلفة ملء الأسطوانة الواحدة تبلغ من ثلاثة آلاف دينار إلى خمسة، وبحساب عددها، يصبح المبلغ كبيراً جداً في بعض الأحيان.
يسترسل الصكيري: لكن الحمد لله هنالك عدد كبير من أهل الخير الذين كانوا يراقبون عملي ولم يتوانوا لحظة عن جمع التبرعات من أجل إنقاذ الناس، وكلهم متفقون على قضية واحدة هي مساعدة العراقيين بجميع ألوانهم وأشكالهم.
أما المشكلة الأخرى التي كنت أواجهها (والكلام للصكيري)، فهي السيطرات وحظر التجوال الكلي أو الجزئي، وسأروي لك حادثة حصلت معي في أحد مستشفيات بغداد، ففي الثالثة بعد منتصف الليل وأنا داخل باحة المستشفى أحمل ما يقارب الـ 250 أسطوانة في سيارتي رفض الموظف الخفر في شعبة الأوكسجين أن يسمح لي بإنزال الأسطوانات على الرغم من معرفتي باحتياج المستشفى للأوكسجين، وأجهل الدوافع، وبعد (التي واللتيا) والصراخ وتجمهر الناس أرغمناه على استبدال الأسطوانات الفارغة بالتي لديّ وأن يوقِّع على وصل بتسلمها.
آلية التجهيز والخزن
وعن آلية خزن أسطوانات الأوكسجين وجمعها وترتيبها وحملها، سألنا الصكيري عن ذلك، فقال: أنا ووالدي ندير محل مواد غذائية وعندنا مخزن صغير، وكان التجهيز يجري إما من الجزء الذي خصصته من مخزن المحل، مراعياً درجات الحرارة في الصيف، أو من مصنع الأوكسجين الذي كنت أضطر للذهاب إليه ثلاث مرات أو أربعاً في اليوم الواحد لتسلم الأسطوانات وتجهيز المرضى المحتاجين والمستشفيات وأبناء المحافظات.
نخوة العراقيين
يقول أحمد: في أحد الأيام وردني اتصال من شخص أصيب والده ووالدته وزوجة أخيه في آن واحد، المتصل يرجوني مساعدته في محنته العصيبة هذه.
(علي علاء الدين)، من محافظة كركوك، يقول: عندما وصل الحال بعائلتي أن أصابها هذا الوباء القاتل وأنا في حيرة من أمري، التفت إليَّ أخي (فراس) الذي كانت زوجته من المصابين فقال لي: قرأت منشوراً يحتوي على رقم هاتف لشخص من بغداد يساعد الناس في توفير الأوكسجين، اتصل بي ووصلني بسيارة إسعاف فسلمته أربع أسطوانات في وقت واحد، في حين كانت هنالك شحة في القناني، وبعد أن تماثلت عائلته للشفاء أعاد القناني، لكن بطريق الصدفة وجد عائلة أخرى تحتاج إلى هذه القناني، فأخبرني بموقف المرضى فزودته بإحدى وعشرين قنينة، ويضيف: أرسلت له أيضاً علاجات وفيتامينات و(بلازما) لأن وضع تلك العائلة كان حرجاً ولا يملكون العلاج والمستلزمات الأخرى.
في ختام اللقاء بيّن لنا الشاب أحمد الصكيري أن محافظة الأنبار، ولاسيما مدينة الفلوجة، كانت لها حصة كبيرة من المبادرة، كما وصلت قناني الأوكسجين إلى محافظات الجنوب أيضاً، ومنها ذي قار والمثنى، من الذين كانوا يتصلون بنا عن طريق الإعلان، وهنا اغرورقت عينا أحمد وقال: إن الله خلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف ونتضامن ونتعاضد، وقال سبحانه إن اكرمكم عند الله أتقاكم، ولم يقل إن هذا من دين كذا وذاك من مذهب كذا. يختم أحمد حديثه قائلاً: أتمنى أن يبقى الإنسان العراقي يتعامل بعفويته ورقّته وإنسانيته التي فطره الله عليها.