قصص الحائكة والنسّاجة والمطرزة وصبّاغـــــة الصوف بساط الريح.. بساط الجدات
ريا عاصي
لطالما جذبتني تلك الرسوم الصغيرة المتداخلة داخل (الأفاريز) الملونة وهي تمتد على (الشف) المعلق على جدار المنزل. (الشف) هي إحدى التسميات التي تطلق على بسط منسوجة بعناية تجري خياطتها من النصف بالإبرة والخيط. وتضاف إلى النسيج تطريزات لرسوم تستلهمها النساء من قصص الجدات ومن موروثنا السومري العريق. كانت أمي تعتز به كثيراً، كونه إحدى اللقى اليسيرة التي ورثتها عن والدتها (جدتي).
كانت النسوة العراقيات قديماً يتباهين بأنواع المفروشات والبسط والشفوف التي يجلبنها معهن إلى دار الزوجية من بيوت عوائلهن. وباختلاف المشارب والجذور والعادات، إلا أن أكثرهن امتلكن (الشف)، الذي يطلق عليه اسم (بساط السماوة) في منازلهن، يزينّ الفراش به ويتباهين بنوعيته وثقله وكم الألوان المنسوجة فيه، والأيقونات المطرزة بالإبرة وخيط الصوف بعد نسج البساط.
كانت بيوت الجدات لا تخلو منه ومن بقية المفروشات التي تنسجها النسوة العراقيات في الجنوب والشمال. في إحدى المرات لاح لي طيف إحدى الأيقونات على جسد جدتي القروية، والدة أبي، إذ كانت سمة القرويات أن يشمن أجسادهن بأنواع وأشكال ورموز عديدة عند خطبة إحداهن وإعلان أهلها الخطبة، فكن يتجمعن في دار أهل العروس ليقمن بعمل الوشم (الدكات) على جسم العروس لزينتها، بدءاً من حاجبيها والحنك وحتى الأقدام.
راقصات المعبد
كان لجدتي العديد من الوشوم، أذكر أن خصرها كانت تحيطه أشكال أشبه بالبنات الصغيرات، وكأنهن يرقصن رقصة مسك الأيدي والتحلق حول خصرها. هذه البنت الصغيرة كنت قد رأيتها أيضاً في أحد الأفاريز في شف جدتي المتعلمة، أم والدتي.
المفاجأة أني حين كبرت ودرست الفن وتاريخه في جامعة بغداد، عرفت أن هذه الحلقة من البنات ما هي إلا راقصات المعبد السومري اللواتي رقصن حول الآلهة عشتار. كل ذلك جعلني أتتبع بساط السماوة وأتساءل في قرارة نفسي: “هل تعرف النسوة أنهن يرددن قصص الأمس السحيق، وحكايات جدتنا عشتار وبناتها، أم أنها محض صدفة؟”
الباحثة العراقية الفنانة أمل بورتر اهتمت كثيراً ببساط السماوة، ما جعلها تنسخ الرموز والصور والقصص وتضعها في لوحاتها، من ثم عملت على رسم بساط السماوة على جميع أبواب منزلها في بغداد، وحتى حين اضطرها الزمن لترك منزلها قامت برفع أحد الأبواب وشحنته معها إلى مقر إقامتها في بريطانيا، اعتزازاً منها بذكريات بغداد. وفي إحدى زياراتها إلى بغداد تحدثت عن النسوة صانعات بساط السماوة قائلة إن “نسّاجات الشفوف والبسط هن امتداد لمبدعات أرض الرافدين، فهن فنانات فطريات غزلن الأصواف ولوّنها بحس فني عال، وطرزت إبرهن أجمل وأحلى رموز الأرض، من سمكات تسبح في النهر، وسنابل القمح التي تقف شامخة في أفاريز متناغمة، وكذلك طرزن قصصهن وقصص أفراحهن وأحزانهن.”
عرائس اليوم يلتحفن الديباج
اندثرت مهنة الحائكة والنساجة والمطرزة وصباغة الصوف بتقادم الزمن ودخول أنواع جديدة من الفرش والسجاد الصناعي، حتى بات هذا الإرث الفني مهدداً بالانقراض. اليوم نجد العرائس يتباهين بشراء المستورد والمصنّع، ولم يعد محمل الفراش وجهاز العروس يحوي بين أرففه أي شف عراقي، أو بساط السماوة، واستعيض عنه بالمصنّع من السجاد و(الكاربت) واستبدلت (اللحف) القطنية بالديباج والستان والحرير الصناعي.
حين عودة الأهوار، واهتمام الناس بالعودة إلى التراث، افتتح بعض المشاغل النسوية التي تهتم بإعادة الحرف اليدوية، واستغلال الموارد الطبيعية ودعم المرأة الريفية وتطوير مهاراتها. من هذه الورش ورشة (أم محمد)، التي قامت بإعداد كوادر نسوية أقامت لهن دورات تعليمية، وأعادت إلى الحياة حرفة حياكة البسط وتطريزها. كما أنها قامت بمواءمة التصاميم القديمة والحديثة، وتطريز قصص حياتية جديدة وإضافتها إلى بساط السماوة وإلى الزي العراقي.
تعمل في ورشة أم محمد اليوم ثلاثون امرأة، بين متعلمة وأمية، من مختلف الأعمار، إلا أن غالبيتهن من الأرامل اللواتي تعتمد أسرهن عليهن اقتصادياً بشكل مباشر.
رسالة في بساط
على جانب آخر، تعمل شركة (بيت الحِرف)، المالك القانوني لـ (براند هيلي)، على تمكين نساء حِرفيات ماهرات في الغزل والتطريز ومساعدتهنّ اقتصادياً. إذ تعمل المجموعة على إنتاج البساط السماوي (الشّف أو الإيزار)، المتوفر الآن في معرض (هيلي).
حين زيارتي محترفاً خاصاً في مدينة القاسم التابعة لمحافظة بابل، التقيت سيدة طاعنة في السن تعمل حفيداتها في نسج وتطريز بساط السماوة. أخبرتني بقصة أحسست أنها حقاً إجابة عن جميع تساؤلاتي، وهي إحدى أهم القصص التي سأبقى أرويها لكل الأجيال. تقول القصة:
“كانت هناك سيدة بدوية تعيش مع زوجها وعائلتها في ترحال مستمر خلف الإبل في صحراء السماوة أوائل القرن الثامن عشر، حين كان العراق تحت الاحتلال العثماني. علّمت بناتها نسج وتطريز البساط، برموز وحكايا، إذ كانت تنسج في كل بساط قصة معينة ترويها لبناتها. حين تزوجت إحدى بناتها ببدوي من عشيرة أخرى وارتحلت مع زوجها، كان يصعب التواصل في تلك الفترات. في أحد الأيام زار البنت قريباً لوالدتها فأعطته بساطاً كانت قد حاكته، وسألته أن يوصل البساط هدية لأمها. ما إن فتحت الأم البساط حتى نادت على زوجها وأبنائها وطلبت منهم إعادة ابنتهم لأنها تتعرض لظلم كبير، وحين سألها الزوج كيف عرفت ذلك، قالت إن ابنتها قد رسمت قصتها داخل هذا البساط، وهي تكمد ألمها غزلاً مع الصوف. وبالفعل أعاد الأب ابنته إلى حضن أمها.”
هذه القصة جعلتني أتمسك ببساط السماوة وأتقرب أكثر من كل أيقوناته، علّني أعرف قصة جدتي.. كما روتها أناملها.