كشفت عن انهيار النظام الصحي.. حرائق المستشفيات نتاج عقود من الفساد وسوء الإدارة
إياد عطية الخالدي /
حتى بعد مرور شهر على فاجعة حريق مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية، مازال أهالي الضحايا يعيشون تحت هول الصدمة، وهم يرون أحباءهم الذين ذهبوا يطلبون العلاج في مشافي الدولة قد خرجوا منها جثثاً متفحمة، ومحظوظ من تمكن من التعرف على جثث ذويه، وما زاد من ألم الفواجع المتلاحقة أن أغلب العائلات خسرت أكثر من عزيز.
ويظهر فيديو نشر على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي سيدة ستينية من أهالي الدواية وهي في حالة ذهول بعد أن نكبت بوفاة سبعة من أبنائها وأحفادها في واحدة من أكثر الفجائع مأساوية تناديهم بأسمائهم: حازم باسم فلاح نسيم، لكنهم كانوا جثامين تحمل نعوشهم مركبة مكشوفة إلى مثواهم الأخير تاركين أمهم تعيش لوعة فراق ليس بوسع أحد تخيله.
مشافٍ أم مسالخ؟
والواقع أن الحريق الذي التهم مركز النقاء لعزل المصابين بفيروس كورونا خلّف أكثر من ستين شهيداً فاضت أرواحهم إلى بارئها تشكو إليه ظلم الفاسدين، لكنه لم يكن الحريق الأول، فقبل بضعة أشهر نشب حريق في مستشفى ابن الخطيب في بغداد ذهب ضحيته نحو ثمانين شهيداً، ووفقاً لإحصائية كشفت عنها مديرية الدفاع المدني العامة، فإن هناك سبعة عشر مستشفى تعرضت لحرائق مختلفة الأضرار، لتتحول المشافي إلى مسالخ موت بالجملة!
وكان المشهد هو هو؛ صراخ يتعالى ونيران تشتعل في أجساد المرضى ومن يرافقهم وشباب يؤدون مهام فرق الإنقاذ بالفزعة العراقية وبتضحية لا مثيل لها، وحينما تأتي النيران على كل شيء وتتفحم الجثث وتغدو عملية الإنقاذ مستحيلة يقف الناس مذهولين من هول ما يحدث يحاولون المساعدة فلا يعرفون إليها سبيلاً، وماذا عساهم يصنعون وقد أغلقت كل منافذ النجاة أبوابها أمامهم، حتى فرق الدفاع المدني التي تأتي غالباً بعد أن تكتمل فصول المأساة فإنها تواجه صعوبة بالغة في إخماد هذا النوع من الحرائق.
أريد أشم أمي!
يروي (ضياء العامري)، وهو شاب في أواسط العشرينيات من عمره، لحظة تعرفه على جثة والدته التي توفيت في حريق مستشفى الحسين، قائلاً: “كنت أتحدث مع أمي قبل ساعة من حريق المستشفى، قلت لها هل تحتاجين شيئاً أنا قادم اليك، قالت لا تأتِ أنا شفيت وسأخرج غداً. كنت في البيت عندما جاءني اتصال يخبرني أن حريقاً شب في مستشفى الحسين، خرجت بسرعة من البيت متوجهاً إلى المستشفى فرأيت النار قد التهمته كلياً ورجال الإطفاء يحاولون إخماد النيران، صرخت أين المرضى هل خرجوا، أين أمي.. ليش ما طلعتوا أمي؟
لم تتبقَّ من المستشفى الكرفاني إلا كومة رماد، ولم تسلم من ألسنة اللهب غير قطع حديد متناثرة هنا وهناك، وبين الناس، حيث لا تسمع سوى صراخ النساء ونحيب الرجال المفجوعين بهذه الكارثة، ذهبت أبحث عن أمي في المستشفيات لعلي أجدها، ولكن دون جدوى؟
ذهبت بعدها إلى الطب العدلي أبحث مع الناس بين الجثث المحترقة، وعندما كنت اقلب في الجثث يئست من التعرف على جثة أمي، لقد تفحمت أجساد الضحايا ومن المستحيل التعرف عليها، لكن أحدهم قال هل هذه أمك؟ ساعدني عدد من الشباب في رفعها، فصرخت إنها أمي، ولا أعرف ماذا حدث بعد ذلك، إذ فقدت الوعي ولم أعد أدري في أي عالم أنا، لقد ماتت أمي ظلماً.”
يا حسين.. لقد أقفلت منافذ النجاة
يا حسين! ونحن نعيش فاجعتك، انظر ماذا فعل بنا الفاسدون، جعلوا أيامنا كلها كربلاء، وكل نسائنا زينبات مظلومات مكلومات بأعز ما حملت أرحامهن.
يُجمع عدد من الناجين أن انفجاراً حدث في إحدى غرف عزل المستشفى الكرفاني المصنوع من مادة (السندويج بنل) السريعة الاشتعال، تبعه انفجار ثانٍ هائل ومرعب، ما دفع الناس إلى محاولة الهروب، لكن المستشفى المحتوي على بابين جرى إقفال أحدهما بإحكام، ما حال دون فتح منافذ للخلاص من الدخان السام وألسنة اللهب وإنقاذ أرواح المرضى ومن يرافقهم.
ويتذكر (نزار السعيدي) -أحد الناجين- اللحظات العصيبة التي مر بها في ذلك اليوم المشؤوم وكيف أن رائحة غريبة انبعثت على شكل غاز تسبب في موت الناس بسرعة اختناقاً، وروى السعيدي لـ”الشبكة” كيف أنه أراد أن يخرج ليرى ما يحدث فإذا بالناس تتزاحم على الخروج أمام باب واحد، ومن دون أن يشعر امتدت يد لإنقاذه لكنه فقد الوعي وكاد أن يفارق الحياة اختناقاً لولا أن شباب المدينة نقلوه إلى أحد المشافي الأهلية، لكنه مازال يعاني من آثار تسمم الرئة بسبب الدخان حتى الآن.
وإذا كان ضياء العامري قد تعرف إلى والدته، فإن مصطفى خليل ظل أياماً يجلس مع عشرات من العائلات المفجوعة بانتظار جثة والدته “أريد أمي. أريد أشمها”، أكثر من عشرين جثة لم يجرِ التعرف عليها إلا بعد إجراء فحص الحمض النووي.
جدل
إنها لمحنة عظيمة أن تتحول المشافي التي وجدت لإنقاذ أرواح الناس إلى مكان لقتلهم بهذه البشاعة، ويعتقد كثير من المراقبين أن هذه نتيجة طبيعة لانهيار النظام الصحي في العراق، وكل الفظائع التي نشاهدها ليست سوى نتيجة لهذا الانهيار المريع.
وبينما تنشغل العائلات المنكوبة بفواجعها وهي تودع أحباءها في مشاهد مؤلمة، يشتعل الجدل عما إذا كانت الحرائق بفعل فاعل أم لأسباب فنية؟!
فرئيس الجمهورية برهم صالح أنحى باللائمة في فواجع حرائق المستشفيات على الفساد. وعد صالح في تغريدة على تويتر عقب فاجعة مستشفى الحسين، أن الحراق إنما “هي نتاج الفساد المستحكم وسوء الإدارة الذي يستهين بأرواح العراقيين ويمنع إصلاح أداء المؤسسات.” ودعا إلى مراجعة صارمة لأداء المؤسسات وحماية المواطنين.
من جهته اتخذ رئيس الوزراء جملة قرارات -كما يحدث بعد كل فاجعة- بدأت بإقالة وزير الصحة في الحريق الأول ثم إقالة مدير صحة ذي قار ومحاسبة عدد من المقصرين في الحريق الأضخم والأكثر بشاعة في مستشفى الحسين.
لكن الكاظمي ألمح إلى تورط سياسي في حادث حريق مستشفى الحسين، وقال الكاظمي بعد يوم من الفاجعة “إن الوطنية لا تتقبل فكرة أن يتعمّد العراقي قتل أخيه من أجل هدف سياسي.”
بيد أن محافظ ذي قار (أحمد الخفاجي) فند فرضية أن يكون الحريق بفعل فاعل وأعلن في مؤتمر صحفي بعد أسبوع من الحادث أن لجنة التحقيق التي كلفها توصلت إلى أن سبب الحريق هو إهمال وتقصير وسوء إدارة نتجت عنها أخطاء فنية.
وتتطابق نتائج التحقيق المحلي مع ما أعلنه مدير الدفاع المدني في محافظة ذي قار، (العقيد صلاح الحسناوي)، الذي أكد أن سبب حريق مستشفى الحسين التعليمي هو انفجار منظومة الغاز التي أشعلت النيران في الموقع المحيط بها، ما تسبب بانتشار النيران إلى بقية أجزاء المستشفى.
وقال الحسناوي في إفادته لوسائل إعلام مختلفة “سبق أن سجلنا ملاحظات بوجود تسرب غاز قبل شهر تقريباً، وحذرنا من وجود (هيترات) وأجهزة تشغيل عشوائية في المستشفى المبني بمادة (السندويج بنل) القابلة للاشتعال في أية لحظة.
الحرائق في المشافي الحكومية فقط!
وفقاً لمديرية الدفاع المدني، فقد بلغت حوادث حرائق المستشفيات خلال ستة أشهر نحو سبعة عشر حادثاً في المستشفيات الحكومية، في حين لم يحدث أي حريق في مستشفى أهلي!
وهي إشارة بليغة لمستوى الإهمال والفساد وسوء الإدارة في المشافي الحكومية وعدم الاهتمام بقواعد السلامة العامة.
ويعزو المدير العام للدفاع المدني (اللواء كاظم بوهان) في حديثه لـ” الشبكة العراقية” أسباب ازدياد الحرائق، ولاسيما مع ارتفاع درجات الحرارة صيفاً، التي توثر في زيادة عدد الحوادث المسجلة، إلى عدم مراعاة شروط السلامة والأمان الصادرة من مديرية الدفاع المدني التي طالما حذرت من تكرار حوادث الحرائق التي تسبب بإزهاق الأرواح وبخسائر اقتصادية جسيمة.
وأشار اللواء بوهان إلى أن هناك اسباباً أخرى مهمة أيضاً لاندلاع الحرائق من بينها تذبذب التيار الكهربائي ما بين مصادر الطاقة الوطنية والمولدات الأهلية، فضلاً عن التسليك العنكبوتي العشوائي في المناطق السكنية والأسواق التجارية وإهمال مطافئ الحريق ومنظومات الإطفاء وضعف ثقافة الحماية الذاتية بين المواطنين، وفي المشاريع والمؤسسات الحكومية والأهلية.
بوهان قال إن مديريته لديها نحو 225 مركز إطفاء، لكن قسماً من الآليات قديم ولا يفي بالغرض، مشيراً إلى الحاجة إلى طائرات مخصصة لإطفاء الحرائق، ولاسيما مع صعوبة التنقل داخل شوارع العاصمة والمدن الكبيرة.
لقد تسببت هذه الفواجع بغضب شعبي واسع وحمل الناس الحكومات المتعاقبة، التي أدارت الملف الصحي وتسببت بانحدار مريع في الخدمات الصحية، مسؤولية ما حدث من كوارث إنسانية سواء في بغداد أم في الناصرية، وتساءلوا عن أسباب إغلاق المشافي الحكومية الجديدة والتدهور في تراجع الخدمات في المشافي القديمة، ولماذا وصل الحال بالجهات الصحية إلى وضع المرضى في أقفاص بلاستيكية (سندويج بنل) قابلة للاشتعال عند أدنى حريق محتمل من دون التفكير بتوفير أبسط وسائل مواجهة هذه الحوادث المتوقعة.
وفي الناصرية خرج مئات المتظاهرين ينددون بما يحدث من فواجع مؤلمة، إذ لم تعد لحياة الناس قيمة في حسابات المسؤولين على إدارة البلاد.
لم نطلب العلاج
يقسم (عبد الرضا السعدي) أحد أقارب عائلة (راشد السعدي) التي فجعت بوفاة سبعة من أفرادها في حريق مستشفى الحسين التعليمي في الناصرية: “والله لم نذهب للمستشفى لطلب الأدوية والعلاج، بل لأن حالة اثنين من أبناء أخي كانت تستلزم إسعافه بالأوكسجين، من أجل الأوكسجين ذهبنا للمستشفى، وإلا فنحن نشتري الأدوية من الصيدليات مثل كل الناس.”
أما (بتول ياسين)، وهي مريضة مصابة بالفيروس، فتقول: ينحو علينا باللوم من لا يعرفون واقع المستشفيات، يقولون: لماذا تحضر العائلات مع مرضاها، وأريد أن أسالهم: من يجلب للمريض أسطوانة الأوكسجين إذا نفد، ومن يستبدلها له، من يعطيه الدواء في أوقاته، من ينقذ حياته إذا لم يجد طبيباً، من يعطيه الطعام والشراب والفيتامينات والأغذية التي تعينه في مقاومة الفيروس، إذا كانت الملاكات الطبية قليلة وأغلبها من المتعينين الجدد الذين لا يعرفون حتى طريقة ربط (الكانيولا)؟!
إجراءات
حاولت “مجلة الشبكة” مراراً الاتصال بالناطق الإعلامي لوزارة الصحة الدكتور سيف البدر للرد على أسئلتها بخصوص أسباب حرائق المستشفيات والإجراءات المتخذة من قبلها بهذا الشأن، إلا أن البدر رفض الرد على اتصالات الشبكة، لكن النائب بدر الزيادي سبق أن تحدث عن ضرورة إلغاء العمل في المستشفيات الكرفانية، وعن أهمية تطوير الأمن في المستشفيات، لمنع تكرار الحرائق.
وقال الزيادي لـ(واع): “إن حادثة حريق مستشفى الحسين (ع)، أظهرت وجود تقصير واضح من الجهات الفنية الموجودة في المستشفى”، مشدداً على “ضرورة تطبيق إجراءين: أولهما إلغاء العمل بالمستشفيات الكرفانية، وتفعيل منظومات الدفاع المدني في المستشفيات كافة، لضمان عدم تكرار حوادث مماثلة.”
كما أكد “وجود مستشفيات في جميع المحافظات بلغت نسب الإنجاز فيها أكثر من 98%، ويمكن افتتاحها حتى وإن كانت غير مكتملة للتخلص من تكرار حوادث الحرائق.”.