كل خطوة هي حياة وطوق نجاة جرعة أمل تقوي عزيمة محاربـــــي الســــــــــــرطان

15

إياد السعيد/
ها قد وصلتُ غرفة الطبيب لأنتظر دوري في معاينته ليقرر جرعتي الجديدة من العلاج الكيمياوي.. لكن! انتبهت فجأة إلى صوت شاب وهو يتحدث بصيغة المحاضر، تلقفتُ من قوله: (إن كل الأدوية التي نتناولها أثناء وعكاتنا وأزماتنا الصحية مهما كانت بسيطة هي مواد كيمياوية، الباراسيتول والأسبرين وشرابات السخونة والسعال وووو الخ، كلها كيمياويات، فلماذا الخوف والرعب من العلاج الكيمياوي؟!)
تطلعت في وجه المحاضر وهو مبتسم وجاد في كل مفرداته وتعابير وجهه، فتوقفتُ، وكأن شيئاً جذبني لكي أجلس مع الحاضرين، وكلهم من مرضى السرطان، وقد زادهم هذا الشاب عزماً ورسم ابتسامة تفاؤل على وجوههم حين نعتهم بأنهم محاربون وليسوا مرضى، ما أجمل الصفة! فراجعت نفسي وقلت في داخلي: نعم، إن ما يقوله صحيح تماماً، لماذا نخاف ونحن نستخدم الكيمياويات في حياتنا اليومية بصورة متكررة؟ نظرة فاحصة في محيا المحاربين والمحاربات للسرطان تفصح عن استبشار بالأمل والارتياح النفسي، وهم يتفاعلون مع المحاضر بين سائل ومجيب وملطف للأجواء رغم عبء المرض والعلاج الحارق.
جرعة مختلفة
دخلت وأنا مليء بأمل جديد وثقة بأنني سوف أجتاز عقبة المرض، وعلاجه الجديد بجرعاته المختلفة هذه المرة، وهذا مشهد واحد من عديد المشاهد الجميلة في مستشفى الأورام بمدينة الطب؛ حيث تجد في كل غرفها ورش عمل جاد وإنساني، في ممراتها وصيدلياتها وردهاتها وإدارتها، خلايا تعمل بإنسانيتها قبل مهنيتها ووظيفتها، وتذوب لديها كل الفوارق بين غني وفقير، وبين طفل وكبير، فميزان الإنسانية هنا لا يخضع لأجر مادي مدفوع، لأن المستشفيات الحكومية، وفقاً للدستور والقوانين، توفر العلاج للمواطن، رغم أنه قد لا يحصل على جزء منه في حالات عديدة، فيضطر لشرائه من القطاع الخاص بمبالغ عالية وإعجازية أحياناً. الطبيب هنا في المستشفى يتجرد عن كل شيء مادي ويتعامل بإنسانيته أولاُ، ومهنيته الأكاديمية والعملية، وهذا يبرز في تعامله اللطيف الحنون مع المريض، وهكذا الممرض والصيدلاني ومازج العلاج والإداري والعامل والموظف، ممارسات إنسانية تجبرك على أن تقول كلمة حق بشأنهم.
طموح وملاحظات
وسط كل هذه المشاهد الإنسانية الجميلة، رصدت مجلتنا ملاحظات عدة يمكن للمسؤولين أن يبادروا إلى ملاحظة ما هو صعب فيها، أو يشكل معرقلاً أمام تقديم الخدمة المقبولة، كطموح للنهوض بالواقع الصحي والطبي، سواء في المستشفى المعني أو غيره، فكما نعرف بيولوجياً أن العلاج الكيمياوي يضعف مناعة أجسام متعاطيه بصورة مخيفة، ربما الى درجة الصفر أحياناً فيكون المريض عرضة للعدوى بسهولة بالغة من أبسط الأمراض المعدية، ما قد يتسبب بانتكاسته والدخول في أزمة جديدة تتطلب في علاجها إيقاف تعاطي جرع العلاج حتى الشفاء.
كذلك هناك عوامل تساعد في نقل هذه الأمراض بسرعة، منها التزاحم والاكتظاظ في الغرف والممرات، وقلة التهوية، أو فساد الهواء فيها، فيما ينتظر العشرات من المرضى أدوارهم متراصين في غرفة الطبيب الضيقة، أو أمام الصيدلية، أو في ردهة تعاطي العلاج التي دائماً ما تكون مزدحمة، ما يضطر عدداً من المرضى أن يأخذوا جرعاتهم وقوفاً، أو التنحي جانباً بكرسي من ممرض أو عامل مع حمالة لقنينة الجرعة.
عاملان مهمان
لتطوير الخدمة المقدمة لهذه الشريحة، ينبغي توفير عاملين مهمين جداً، هما أساس كل تطوير أو تغيير وبناء، وهما (الإرادة والإدارة)، فالإرادة هي النوايا الطيبة الجادة كدافع إنساني غريزي عند معظم ملاكات المستشفى بمستوياتهم كافة. أما الإدارة فهي العقل الراجح الذي يخطط ويدرس الحالة ليضع لها الحلول الستراتيجية الشاملة. وبمزج هذين المفهومين وتعاضدهما سنحصل على نتائج تبهر المجتمع وتفرح محاربي السرطان وتديم نشاطهم وصحتهم. كذلك لابد من توفير فضاءات ومساحات واسعة لجلوسهم، ذات تهوية ممتازة، ويفضل أن تكون خضراء مزروعة بالأشجار وحسب المتوفر من المساحات.
⁠كما يجب توزيع أعداد المرضى وجرعاتهم بصورة عادلة ومتساوية بين الأطباء، وهذا تحدده الإدارة حسب جداول ومعايير محددة لديها. وأيضا جعل دوام المستشفى ٢٤ ساعة في تعاطي الجرع، بدلاً من حصرها صباحاً وتوزيع المرضى حسب وجبات دوام الأطباء والملاكات الأخرى الساندة. كذلك يتعين تخفيف الضغط عن بعض الأطباء ذوي الخبرة لنمنحهم الفرصة في معاينة أكثر دقة بزمن أطول لتوجيه وفحص المريض بصورة أفضل. وإيجاد وحدة خاصة بالتغذية للتوعية على نظام غذائي سليم وصحي بإشراف أطباء تغذية ذوي خبرة، وتوفير منشورات توزع بين المراجعين مع تقديم محاضرات لهم ولمرافقيهم عن النظام الغذائي، وأيضاً فحص المريض من ناحية التكامل الغذائي. وضرورة إبعاد المريض -توعوياً- عن دكاكين وعيادات الأعشاب من خارج الجهات الطبية الرسمية.
ويستحسن فرض تسجيل مرافق خاص للمريض من عائلته أو أصدقائه يتلقى محاضرة عن كيفية التعامل مع المريض، وبالأخص مرافقي كبار السن والأطفال، كذلك ليكون مرجعاً للاتصال به في حالة الطوارئ، إذ لاحظنا أن الكثير من المرضى يراجعون بمفردهم.
قد تكون تجربة (مستشفى الأمل) في بغداد، وإحيائها كملحق لمستشفى الأورام الرئيسة في مدينة الطب، نموذجاً يستحق الدراسة والاهتمام والتطبيق في ملاحق أخرى، لأن هذه التجربة خففت كثيراً من الاكتظاظ، وأسهمت في معالجة أعداد كبيرة طبقاً لموقعها الجغرافي البعيد نوعاً ما عن تلوث الشارع بالدخان والضجيج وزحام الطريق الذي يثقل المريض بعبء نفسي وجسدي. لكنها (التجربة) لا تلبي الحاجة الفعلية، لأنها تشهد زخماً في المرضى وجدول أطباء مزدحماً، رغم مساحة المستشفى الواسعة وملاكاتها، الذين لا يقلون عن ملاكات مدينة الطب في إرادتهم ونواياهم الطيبة وخبراتهم وتعاملهم الإنساني.
هي دعوة لوزارة الصحة في أن تمد نسغ الحياة لمحاربي السرطان، فكل خطوة هي حياة وطوق نجاة..