لماذا توقفت السفرات المدرسية إلى المتاحف؟

557

استطلاع أجرته: رجاء الشجيري /

تمثل المتاحف هوية الشعوب وخزان إرثها وتأريخها وذاكرتها التي تحتفظ بشواهدها الحضارية التي تبدأ من الحروف ولا تنتهي بالأزياء والألعاب والمهن الشعبية البدائية حتى غدت دليلاً للسائح ومصدراً معرفياً للمؤرخ وطلاب العلم لا سيما الأجيال الناشئة.
ثمة مؤشرات واضحة تؤكد انقطاع العلاقة الحميمة التي تربط الأجيال الناشئة بالمتاحف، خاصة بعد تعرض معظمها لأعمال نهب عشوائي وآخر مقصود عقب أحداث نيسان ٢٠٠٣ التي شهدت سقوط النظام السابق..
في جولة ( الشبكة ) هذه نتعرف على آراء عدد من المعنيين عن تداعيات العلاقة المقطوعة بين الطفل والمتحف، وانعكاسها على معرفته بإرثه وحضارته عن كثب.
متاحف بلا أطفال
اصطلاحاً يعرف المتحف بأنه المكان المخصّص لحفظ وتوثيق وعرض وصيانة التراث الإنساني والطبيعي والتطوّر العلمي والفني ونشر المعرفة إضافة لضمه الرسومات والتماثيل الشمعية التي تمثل الشخصيات التاريخية والمشهورة.
وما زالت ذاكرتي تزخر كيف كانت سفراتنا المدرسية إلى المتاحف والقبة الفلكية، وكيف كانت الفرحة ونحن نشاهد تماثيل الشمع في المتحف البغدادي قبل السقوط وفيها مسجل يحكي القصص المرافقة للتماثيل والآثار الأخرى وهناك من يزودنا بالشرح كلما سألنا وانتابنا الفضول.. فأين الآن الأطفال منها؟ وكيف انقطت هذه العلاقة الوثيقة بها؟!
أولويات مدرسية
التدريسية المتقاعدة نجلة عبد الرزاق طعمة تحدثت عن هذه العلاقة قائلة: الأجيال السابقة خلال فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات كان الاهتمام بزيارة المتاحف والمناطق الاثرية فيها من أولويات المدارس في النشاطات اللا صفية، فكل مدرسة ترتب سفرة إلى المتحف العراقي او إلى آثار بابل أو عكركوف أو إلى الملوية وقصر العاشق في سامراء والقصر العباسي والكثير من المواقع الثرية، شخصياً كنت أرتب برنامجاً لاولادي في العطلة الربيعية للمتحف والمواقع القريبة، كنا نذهب إلى بابل وحصن الأخيضر ومدينة الحضر، هذه الفعاليات بدت تندثر بالتدريج إلى أن وصلنا إلى مرحلة الجهل التام بتاريخ بلدنا ففي كثير من الاستطلاعات التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي أو التلفاز عند السؤال عن تراثنا نسمع أجوبة مخيفة تكشف مدى الجهل بين الأطفال والناشئة بل وحتى الشباب.
مكتبات ومتاحف
ويعتقد المدرس عمر يوسف محمد أن الطفل بشكل عام يميل إلى الملموس على العكس من البالغين، يكفي أخذ فكرة من خلال قراءة كتاب أو متابعة نشرة الأخبار بمعنى مهما تكلمنا مع الطفل عن التاريخ بعصوره لن يستطيع تكوين فكرة ما لم يحتك بشكل مباشر مع الموضوع وأفضل طريقة هي أخذ الطفل إلى متحف متخصص سواء بالحضارة أو التراث أو التاريخ الطبيعي.
دور المدرسة ولوقت قريب كان هو الدور الرائد. أخذ على عاتقه نقل الطفل من واقعه اليومي الروتيني إلى واقع مغاير، حتى وإن كان بصورة عمل جماعي في الحديقة المدرسية.
إذ وبعد التنسيق مع مجلس الآباء والمعلمين وموافقات الجهات التربوية يتم اجراء سفرة علمية للتلاميذ إلى المتحف البغدادي أو متحف التاريخ الطبيعي أو المتحف العراقي.
هناك وفي أروقة المتحف نسمع أسئلة وملاحظات من الأطفال نستوعب من خلالها مدى فضولهم وتعطشهم للمعرفة والاستكشاف .
كما أكد أهمية المكتبات المدرسية والتهيئة للطفل او التلميذ قبل الذهاب للمتاحف بقوله : تقوم ادارة المدرسة بتوسعة المكتبة من كتب ومجلدات وتُشرِك الطالب في إثراء المكتبة المدرسية.
ومن جهة اخرى يزور الطالب المكتبة المدرسية وبما يسمح به وقته وقد وجدت شخصياً كتبا قيّمة في المكتبة المدرسية في التاريخ والحضارات القديمة فضلاً عن كتب العلوم والفلك والتاريخ الاسلامي والرياضيات.
واحتوت المكتبة على مجسمات ولوحات وتجارب من عمل الطلبة مع وجود قاعة المطالعة وكتب المكتبة إلا أن إقبال الطلاب أقل من ضعيف وأخيراً هناك مبادرة سنوية أطلقتها وزارة التربية “أسبوع المكتبة المدرسية” نهاية شهر تشرين الثاني أو بداية شهر كانون الاول يتم فيها إحياء المكتبة المدرسية والتوجه للمطالعة وكان لهذه المبادرة الدور الأهم لرجوع المكتبة المدرسية وأخذ دورها المنشود.
تنمية الوعي الوطني
وأشار الإعلامي والشاعر د.علاوي كاظم كشيش إلى أسباب انقطاع هذه العلاقة بقوله:
منذ السنين الأولى لنا، وفي نهاية الدراسة الابتدائية، كان لنا أن نزور المتحف العراقي زيارة شخصية، وهناك في المتحف برزت التماثيل والرقم الطينية والمنحوتات، وقيض لنا آنسة تشرح ما تقع عليه أعيننا، منذ تلك اللحظة شممنا العراقة في هذه المعروضات، ولمسنا العمق التاريخي الذي يتحلى به الإنسان العراقي وإبداعه ووعيه.
حدث أن زرنا المعرض ونحن طلبة جامعيون، وكان الإحساس والشعور ذاته لم يتغير، وتأكد لنا تماماً أن وعينا الوطني التاريخي يبدأ من هنا ويتجانس مع إحساسنا بما عشناه ووعيناه من تفاصيل يومية تجعلنا نفخر بأننا عراقيون.
وللأسف فقد ضعفت علاقتنا جميعاً بالمتحف، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها المنعطفات الحياتية الحادة التي مر بها الشعب العراقي، من حروب وحصارات وغيرها على مدى أربعين عاماً، فضلاً عن أن إدارة المتحف بذاتها ظلت تمارس عملها كأي دائرة روتينية يقبع الغبار على معروضاتها وعلى موظفيها، لذلك قلت السفرات المدرسية والشخصية والعائلية، وأصبح المتحف مكاناً ينتمي إلى الماضي، وكم تمنيت أن أرى أبوابه مفتوحة بعد عام 2003.
ومع كل هذا فلم تبادر وزارة الثقافة للتنسق مع وزارة التربية لجعل السفرة إلى المتحف جزءا من منهج التاريخ أو سواه، مضيفاً كما انفصلت علاقة رب الأسرة وربتها أيضا عن المتحف لأنها انفصلت أصلاً عن الهوية الوطنية وانصرفت إلى هويتها الفرعية. لذلك لا بد أن يصار إلى أن تعمل وزارة الثقافة بالتعاون مع وزارة التربية إلى إصدار سلسلة أفلام وثائقية قصيرة للتعريف بالتاريخ العريق لبلدنا، فضلاً عن التعريف بالمتحف ذاته وتشجيع زيارته، لكي نعيد تمتين الرابطة الوطنية بين الطفل وبين هوية بلده.
قرية متحفية
وأعربت سوزان منعم صالح وهي سيدة متقاعدة كانت موظفة بسكك الحديد عن أملها بأن يستعيد الجيل الجديد علاقته بالمكتبة، نحن من جيل تربي على أن يقرأ التاريخ ويشاهده في المتاحف والآثار، وعائلتي جعلتني اعتاد المحافظة على ذلك، في الأول متوسط كنت أتباهى مع صديقاتي في الذهاب للمتحف والتزود والتمتع برؤية الآثار والمعلومات عن الحضارة، وقد زرعت هذا الشغف والمعرفة عن الماضي والحاضر في أولادي .. جيل اليوم لا يعرف شيئاً عن الحضارة أو المتاحف، ربما المتحف البغدادي يسمع به فقط. بصراحة أنا أرى العراق وأرضه متحفاً كبيراً غنياً جدا بالارث والمعارف .
تضيف: أمنيتي أن تكون لدينا قرى تمثل حياة الأمم السابقة بممثلين من دم ولحم وأزياء كما في مصر على غرار القرية الفرعونية، فهي خطوة سياحية تعليمية ترفيهية وتشغيلية لليد العاملة في آن واحد…
عالمة صغيرة
ومن الآراء التي كان يهمنا سماعها من الجيل الجديد كانت روان احسان كاظم ١٥ عاماً وبادرنا في سؤالها؛ كيف ترين المتاحف وماذا تعرفين عنها لتجيب:
أتذكر أول زيارة لي للمتحف كيف كانت رائعة، قضيت وقتاً ممتعاً في مشاهدة الآثار والتماثيل القديمة، وكان هنالك العديد من الأقسام والصالات التي تضمها، كنت مهتمة بمعرفة بعض المعلومات حول هذه الاثار وبوجود مرشدة معنا فإنها أعطتنا المعلومات حولها، وطالما أحببت علماء الآثار فقد كان حلم طفولتي أن أصبح عالمة آثار بسبب مشاهدتي لبرنامج كارتوني عرض فكرة رائعة جداً عن المتحف والآثار القديمة، ولكن بسبب انقطاعي التام عن زيارة المتحف وافتقاري للمعلومات الأثرية لم أعد مهتمة كما السابق، مع أن حبي لمعرفة المعلومات عن حضارة بلدي مستمر وآمل بأنني استطيع الذهاب وزيارة المتحف مرة أخرى.
نعم الهاتف وأجهزة الالعاب أصبح الأطفال وزملائي مهتمين بها أكثر من أي شيء آخر ويرون المتحف المكان الممل عديم الفائدة وكون مدارسنا مهتمة فقط بالرحلات الترفيهية إذ نادراً ما يتم اصطحابنا برحلة مدرسية تعليمية للمتاحف بل وإن تم أخذ بعض من معي يقول ما الفائدة أو الغاية من الزيارة؟ ولا يوجد من يشرح لنا وينمي فضولنا ومعرفتنا، مع ذلك ما زلت أرى المتحف مكاناً رائعاً نتمكن من خلاله من جمع الأفكار والمعلومات عن حضارة بلدنا والأمم السابقة.
وعن أهمية العلاقة بين الطفل والمتاحف يذكر لنا دكتور عباس عبد منديل معاون مدير المتاحف العراقية: العلاقة مترابطة ومهمة بين الطفل والمتاحف وهي ما يطلق عليها بالتربية المتحفية ولكن إجراءات الغلق وجائحة كورونا أثرا كثيرا على التواصل بين المتحف والمؤسسة التربوية، وقد قمنا بتخصيص متحف للطفل في إحدى قاعات المتحف العراقي ولكن نتيجة غلق المتحف لم يفتتح لغاية الان على الرغم من جاهزيته وهذه القاعة بديلة لمتحف الطفل التي تضررت سنة ٢٠٠٣..
مبادرة واقتراحات
وقدم الباحث في التراث الثقافي العراقي عبد السلام صبحي طه اقترحات تؤكد أهمية جدية عودة العلاقة المهمة بين الطفل والمتحف.
وأوضح طه أن الموروث المادي مهم جداً أن يُرى بشكل حي وملموس وليس المشاهدة بالتلفاز أو الحاسوب أو القراءة عنه في كتاب، وهذا دور المتحف في أن يقرب الأثر للطفل، لذا فإن دور المتاحف وتربية الناشئة من الأولويات المهمة التي تقع على عاتق الدولة والمجتمع والمدرسة والأسرة كمنظومة متكاملة.. “العراق مهد الحضارة” هذه الجملة قد تختفي من قواميس الجيل الجديد اذا لم نسعَ لإعادة جادة في الربط بينهما.
وأضاف: أمر مهم للأطفال داخل المتحف أن تقدم لهم المادة بشكل تعليمي محبب ومبسط، في السبعينيات والثمانينيات الدولة العراقية أقامت متحفاً للطفل هو البوابة الآشورية الحالية للمتحف وكانت المادة التراثية تقدم له أيضا ضمن مداركه واستيعابه.
مضيفا هي دعوة جادة لعودة متحف الطفل كما كان، ودعوة للقائمين على المتاحف في أن يعززوا هذه العودة للأطفال بتهئية مسبقة لهم ضمن مطبوعات وشروحات ترافقهم عند الزيارة.
مؤكدا في ختام حديثه على فكرة لغوية تعليمية مهمة يمكن أن تعطى للطفل في المتحف حينما نستفز الطفل بأن نخبره أن كلمة فأس أو تاجر مثلا جذورها تعود للغة الاكدية، أي قبل أربعة الاف سنة فكثير من مفردات لغتنا مشتقة عن الاكدية…هذا الربط له أثره في الطفل، فاللغة أداة الفكرة.
وبالتالي فان حصيلة جولة الشبكة تؤكد أهمية دعوة جادة للجميع في مسعى لاعادة علاقة الاطفال والجيل الجديد بمتاحف بلدهم وللتزود بالمعرفة المباشرة باخبار وأحداث حضارتهم لتكون المسؤولية هذه على عاتق الدولة والمدرسة والاسرة على حد سواء.