لوريس: قاسم كان يتحرج عندما نقدم له طعاماً خاصاً

712

الشبكة/

في أحد مساءات بغداد البهية، حين كان الزعيم عبد الكريم قاسم يمر بشارع الرشيد، طريقه المعتاد يومياً من منزله إلى وزارة الدفاع وبالعكس، احتشدت الجماهير على جانبي الطريق تحيّي زعيمها الأوحد, حتى عكّر صفو ذلك المساء الحزين وابل من الرصاص الغادر أطلق صوب سيارة الزعيم في محاولة لاغتياله
, فوقع تبادل لإطلاق النار بين المهاجمين وحماية الزعيم المتكونة من شخصين فقط، شارك الزعيم في صد المهاجمين بعدة إطلاقات من مسدسه الشخصي, لكن رصاصات الغدر أصابت كتف الزعيم الأيسر وجرح المرافق (قاسم الجنابي) الذي كان جالساً في المقعد الأمامي فيما قتل السائق.

الصدفة

وتشاء الصدفة بعد هذا الكم من السنين من ذلك الحدث أن يلتقي الأستاذ فؤاد الطائي بإحدى الممرضتين اللتين أشرفتا على علاج الزعيم. إحداهما قد شارفت على الثمانين من عمرها، وهي لوريس كريم نصري، المولودة في بغداد عام 1935. وقد تحدثت لوريس عن تلك اللحظات التاريخية ومرافقتها للزعيم عبد الكريم قاسم.

عن الصدفة التي وجدت نفسها فيها ترعى الزعيم إثر محاولة اغتياله قالت: كنت حينها أعمل في مستشفى دار السلام، وقد انتهى دوري في الخفارة. كان ذلك في مساء الأربعاء السابع من تشرين الأول 1959 وتوجهت للخروج وإذا بي وجهاً لوجه مع مجموعة مسرعة يتقدمهم الزعيم والدماء تظهر على بزته العسكرية، فأُغلقت كل منافذ المستشفى وأُشير إلي بالعودة للمشاركة في عملية الإسعاف، كما أمرني وزير الصحة د.عبد اللطيف الشواف الذي حضر مسرعاً بالبقاء مع زميلتي رئيسة الممرضات (غزالة توفيق)، وهي مسيحية أيضاً، بالبقاء حتى الصباح، ومنع أي ممرض أو ممرضة بالقيام بخدمته ودخول غرفته عدانا، وحضر على وجه السرعة الى المستشفى الأطباء المعنيون، كما ذكرت، الى جانب وزير الصحة والدكتور الأستاذ الجراح خالد القصاب والدكتور هادي السباك مدير المستشفى وكذلك مدير الأمور الطبية، فتشكلت لجنة من مجموعهم لفحصه وتقييم الحالة، وحوّلوه مباشرة الى غرفة العمليات بعد أن تولى مرافقوه العسكريون تغيير ملابسه بملابس المستشفى.

تمضي لوريس قائلة: كنا أنا وزميلتي نقوم بخدمته وتقديم الدواء والطعام. وبعد نقله من غرفة العمليات بدأت مهمتي أنا وغزالة، فكنا نتولى معاً أو بالتناوب تعديل الفراش والرعاية المطلوبة، وكانت خفارتي معه في النهار غالباً لأربع ساعات تقريباً، ثم أذهب لأستريح في البيت، في حين تكمل زميلتي خفارتها الليلية له ولبقية المرضى الذين يشاركونه المكان ويتسلى في التحدث إليهم والمرور على أسرّتهم يومياً.

احترام الطوائف

وتضيف لوريس أن الزعيم كان يميل للتعامل معه كمواطن مثل بقية المواطنين من المرضى، ويتحرج من التفرد بأكل خاص، ولم يحصل أن طلب أو اشتهى أكلة معينة أو طلباً خاصاً يميزه عن الآخرين .كان مجاملاً ولبقاً ومتحفظاً في كلامه، وقد أحسسنا بمدى احترامه وحبّه للطوائف غير المسلمة، وقد فوجئنا ذات يوم بحضور راهبات بملابسهن المعروفة لزيارته، وعرفنا أنهن جاراته في السكن، وقد جلبن معهن تمثالاً للسيدة العذراء وعدداً من الأيقونات، للبركة وهدية لسلامته، وقد سرّه ذلك كثيراً. والغريب أنه عندما كان أهله أو أقاربه يقومون بزيارته، كانت زياراتهم سريعة، نزولاً عند رغبته، وأتذكر أن إحدى شقيقاته في أول زيارة له كانت غاضبة ومنفعلة لما حصل وذكرت أمامه بأنها ستتولى قيادة تظاهرات وتحرك الشارع احتجاجاً على تلك الجريمة، فانفعل بدوره ورفض بشدة هذا التوجه، بل طلب من مرافقيه ومقربيه مراقبة شقيقته كي لا تتدخل وأن لا يسمح لها بالخروج من البيت !

وكانت مكافأته للوريس وزميلتها غزالة باجات فيها شعار الجمهورية، قدمها لهما بنفسه.

إساءة وملاحقة

وتستطرد لوريس فتقول: بهدف الإساءة لحكم عبد الكريم قاسم ولشخص الزعيم بالذات كان الإعلام المعادي قد أشاع بأنه قد طلب ممرضات روسيات لتولي رعايته، وبالطبع كنت أنا وزميلتي المقصودتين وكلانا من أبناء الوطن، وعندما حدث انقلاب شباط عام 1963 واستشهاد الزعيم فقد استدعيت من قبل الحرس القومي وبحضور منذر الونداوي للتحقيق معي، وشاءت الصدفة أن أحد الجالسين جنبه كانت له معرفة شخصية بالدكتور كمال السامرائي الذي كنت أعمل معه فأنقذني حينها، لكن المراقبة والمضايقة استمرت برغم أني وزميلتي غزالة لا علاقة لنا بالسياسة، وكنا نؤدي واجبنا الإنساني وفق متطلبات المهنة وحسب، بدليل أن القدر شاء فيما بعد أن يطلب مني حضور عملية جراحية لرئيس الجمهورية عبد السلام عارف، وقد تعللت لمدير المستشفى بأنني في إجازة لكنه أصرّ على حضوري على أن أتمتع بالإجازة بعد إجراء العملية، فأية مصادفة تلك، وشتّان بين هذا وذاك!