مــــــوتُ الأنهـــــار.. محنــــــــة أوروبا المُعذّبــــة
آمنة عبد النبي- ألمانيا/
لم يعد البكاء في فصّي عينيكِ المسحوبين كحبتي لوز يا “صوفيا لورين” غريباً على قوارب البندقية المتيبسة ومساكنها التراثية التي كانت يوماً ما غافية في أحضان المياه، ربما لكثرة ما بكيتِ في درابين وأحياء (تورمارنسيا) المغمسة بالوحل وأكواخ نابولي، المدينة البائسة، المذهلة آنذاك. في هذا العالم المجنون كُلُّ شيءٍ موجع بالجسد صار عادياً إلَّا حينما تموتُ الروح وهي على قيد الحياة، ولأسبابٍ عديدةٍ، منها موتُ الأنهار التي كانت تحمل في كفوفها الطيّبة الخير لملايين السكان على هذه الأرضِ المُعذَّبة مع ما تبقى من دمعنا اليابس المرمي على حواف الشواطئ.أكثر ما يؤلم في أنهار أوروبا البلوريَّة الساحرة أنهُ صار بالإمكان السير خلال بعضها داخل عمق البحيرات المدورة، وتحسس أضلاعها، إثر انحسار المياه بعد أزمة جفاف قاسية متعاقبة ضربت مستويات حصاد المحاصيل وحركة التجارة عبر الممرات المائية، التي أفضت بالنتيجة إلى فرض قيود على استخدام المياه. واستناداً إلى تقرير أعدته وكالة (بلومبيرغ) الأميركية بأن الأنهار تسهم، ضمن وسائل النقل في أوروبا، بنحو 80 مليار دولار.
قوارب الحب تحتضر
إيطاليا هي صاحبة الفجيعة الجمالية الكبرى، إذ لا تبدو أنهارها في حال جيدة، ولم يعد منظرها يسرّ العُشاق في كل مكان، إذ يشهد نهر (بو) انخفاضاً مخيفاً في مستويات المياه، وبشكل غير مسبوق، بسبب درجات الحرارة المرتفعة التي شهدتها البلاد في فترات متعاقبة، إذ خلت إثر ذلك أقنية فينيسيا (البندقية) من المياه، ما تسبب بتوقف قواربها عن الحركة في مشهد يبعث على القهر والحزن لدى سكان المدينة والعالم بأسره، إذ أن انخفاض منسوب المياه في القنوات إلى أكثر من نصف متر لا يمكن معه لقوارب الجندول الشهيرة وقوارب الطوارئ التنقل في القنوات، علماً بأن نهر (بو) يبدأ من تورينو في جبال الألب وصولاً إلى مدينة البندقية، ويعيش على خيراته وجغرافيته قرابة الـ 16 مليون شخص، وتحديداً في منطقة حوض النهر الإيطالي. وفي وقت سابق، كانت منظمة (ليغامبيانتي) قد حذرت من السلطات البيئية في إيطاليا من تراجع تساقط الثلوج بنسبة 53 في المائة أقل من المتوسط على المدى الطويل في جبال الألب الإيطالية، التي كانت تكتسي بالبياض الذي اختفى خلال الأشهر الأخيرة. ولا تكمن المشكلة في قلة الثلج فقط، وإنما في عدم هطول الأمطار، إذ اظهرت البيانات أن هطول الأمطار في حوض نهر (بو) الذي يتدفق من الشمال قد انخفض بنسبة 61 في المائة مقارنة بالمتوسط التاريخي.
الراين قبلة العشاق
بعد أن كانت البحيرات تلمع والأنهار تنضح جمالاً وسحراً، وتشكل روافد لاقتصادات الدول، غافلها القدر بجفاف فصلي الشتاء والربيع، وما تبع ذلك من درجات حرارة قياسية في الصيف، أدت إلى انخفاض منسوب المياه في الممرات المائية في أوروبا، وهو ما من شأنه أن يؤثر على مستويات حصاد المحاصيل وحركة التجارة عبر هذه الممرات المائية.
الأزمة قاسية إلى درجة دفعت بعض الدول إلى فرض قيود على استخدام المياه وتحذير الناس من السباحة في المناطق الضحلة، فيما أكد خبراء الأرصاد أن تقييمات أولية تشير إلى أن الجفاف قد يكون الأسوأ في القارة منذ أكثر من خمسمئة عام..
الراين الحزين، بقعة الحُب والتعايش، الذي يعتبر أحد أهم الأنهار وأطولها في القارة الأوروبية بطول يبلغ 1230 كيلومتراً، ينبع من سويسرا ويمر بفرنسا وألمانيا وهولندا ليصب أخيراً في بحر الشمال، ويعيش على خيراته وجغرافيته قرابة الـ 58 مليون شخص في منطقة نهر الراين، حيث تستخدم مياهه للشرب والري والتصنيع، إذ انخفض منسوبه وبشكل مُرعب إلى أكثر من 40 سنتيمتراً، لذلك شكل جفافه محنة اقتصادية كبيرة، ليس لألمانيا وحدها، وإنما لأوروبا ككل، لأنه بطبيعة الحال أهم مصدر للري وتوليد الكهرباء ونقل البضائع في القارة العجوز.
سافو المتيبس يستغيث
عالم الأرصاد (كلاوس هاسلنجر)، من مركز (جيوسفير) النمساوي، الذي يمثل خدمة الأرصاد الجوية الحكومية النمساوية، صرح للعالم حول محنة التغير المناخي التي ضربت أوروبا قائلاً إن “تساقط الثلوج في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وأجزاء من النمسا أقل بكثير من المتوسط، وإن هذه ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها مثل هذه الظروف الجوية بانخفاض شديد لمعدل هطول الأمطار على مدى سنوات، وإنما كانت هناك، قبل ستين عاماً، موجة من الطقس الجاف استمرت سنوات عدة بسبب توزيعات معينة لدرجات الحرارة على اليابسة والبحر.”
نهر (سافوريوز) الساحر بجاذبيته في فرنسا كان لهُ نصيب كبير من الذبول والعزلة إذ اضحى، ولأول مرة منذ عقود، خالياً من المياه بسبب موجات الجفاف القوية المتعاقبة التي ضربت البلاد بعد ارتفاع درجات الحرارة إلى أكثر من 40 درجة مئوية. وفي هولندا اضطر الكثير من العبّارات النهرية إلى التوقف، ما أثر على حركة السيارات والشاحنات ومرور الدراجات. وقد اكدت شركات المياه في رسالة واضحة أن كارثة الجفاف والتلوث وتزايد عدد السكان، شكلت تهديداً مباشراً لإمدادات المياه النظيفة الصالحة للشرب. وأكدت ذات الشركات أن النقص في مياه الشرب ربما يكون على بعد بضع سنوات فقط وفقًا لما أوردته صحيفة NRC.