مكتبة المثنى.. قلبُ بغدادَ الأدبي وذاكرتُها الخالدة

1٬443

آية منصور /

إنه لأمر بالغ الصعوبة، أن يضطلع المرء بالكتابة عن المكتبات في بلادنا، وهنا أقصد الصعوبة التي يواجهها في كيفية التعبير عن هذه الصروح التي نشأ آباؤنا في ظلالها المعرفية الوارفة. أفكر ملياً قبل إيجاد العبارات التي تفيها حقها وأنا أسترجع حكايات والديّ عن ذكرياتهما مع المكتبات وأصحابها، لا شيء أبداً يعادل الاعتزاز بتراثنا الأدبي، وذاكرته الحبلى بالفخر.
سأخبركم اليوم عن مكتبة، كانت وما زالت رغم زوالها بعد الحريق الذي التهمها دون رأفة، تمثل رمزاً حقيقياً للثقافة في العراق، أتحدث عن (مكتبة المثنى) العريقة التي أسسها الكتبي قاسم الرجب، المولود عام 1919 في الأعظمية ، لتكون المكتبة الأكبر في العراق، ولربما في الشرق الأوسط…
يستذكر حفيده ابراهيم الرجب قصة ولع جدّه باقتطاع قسائم الكوبون من المجلات العربية أو الإنكليزية ليعيد إرسالها إلى ذويها، وكانت تلك الكوبونات تُعلِن عن العطور، أو نماذج تبغ وغيره، أو فهارس لمكتبات. عشق المراسلة والقراءة ولم يعلم يوماً أنه سيكون صاحب مكتبة.
يقول ابراهيم إنه “بسبب الحالة المادية الصعبة التي ألمّت بعائلة جدي، اضطر إلى ترك المدرسة، ولم يكن حينذاك قد تخرج في السادس الابتدائي بعد، وبدأ حياته العملية عاملاً صغيراً في (المكتبة العربية) لمؤسسها نعمان الأعظمي، العمل الذي مهّد له دخول عالم الكتب بقوة، حتى أنه كان يعود إلى بيته مشياً، لأكثر من ستة أشهر، لكي يدّخر ويوفر المال لأهله، ويترك المتبقي لشراء جزء من كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني من (المكتبة الوطنية) اذ يسمح له صاحبها،عبد الحميد الزاهد، بمساعدته في الخصم على الكتب، عكس نعمان الأعظمي الذي كان يرفض حتى إعارته الكتب ويبيعه إياها بمبالغ باهظة.”
المرجع الصغير
اتسعت معلومات الرجب في عالم الكتب كثيراً، وزادت مطالعاته حتى أصبح مرجعاً للكثير من الزبائن، المتعطشين إلى المصادر أو البحوث حينذاك، ما اضطره إلى ترك المكتبة، بسبب المعاملة غير الجيدة من صاحبها، ليبدأ رحلة شراء الكتب غير المتوفرة في العراق من خارج البلاد وبيعها في السوق العراقية، وكان أول كتاب اشتراه هو نسخة كاملة من (معجم الأدباء)، سلمها إلى الأب رايس مدير ثانوية كلية بغداد للآباء اليسوعيين.
طلب منه خاله شراء مكتبة بعد أن باع بيته، وبدأ البحث فوجد أحد الدكاكين الفارغة، لا تزيد مساحته على مترين مربعين، يقع في وسط سوق السراي، وقد كانت أجرته السنوية ستة عشر ديناراً، واشترى صناديق خشبية فارغة، واتخذ من أخشابها غير الصقيلة رفوفاً حتى أن شكلها لم يكن جذاباً مقبولاً، وملأها بمجلات مستعملة طلبها من أحد الباعة الذين اختصوا ببيع هذه المجلات، وكان ذلك في الخامس من تموز عام 1936.
متران للكتب
وقد ساعد قاسم الرجب وشد من أزره بعض زبائنه في عمله السابق، وكانت الكتب تصل الى مكتبته التي سماها باسم (المعرِّي)، إذ كان وهو صغير يعشق أبا العلاء ويحفظ له كثيراً، لكن صديقه (عبد الستار القره غولي) أشار عليه بتغيير اسم المكتبة وجعلها (المثنى)، نسبة إلى (المثنى بن حارثة الشيباني)، إذ كانت الروح الوطنية والقومية يومئذ متأججة في العراق.
توسعت المثنى شيئاً فشيئاً بمرور الوقت، وزاد عدد موظفي المكتبة من ثلاثة موظفين إلى خمسة وثلاثين، واتسعت المكتبة وانتقلت إلى بناية كبيرة، وبهذا أصبحت ذات كيان، وصارت الصحف والمجلات تعرض عليها التوكيلات.
كما ابتدأ استيراد المجلات من مصر، وكانت ترسل إلى بغداد بالطائرة، حتى أصبحت المجلة التي تصدر في القاهرة يطلع عليها القارئ العراقي في بغداد يوم صدورها.

مجلة المكتبة
أصدرت مكتبة المثنى مجلة (المكتبة) الشهرية طوال السنوات (1960-1973) وكانت في بادئ أمرها نشرة تعنى بالكتب وأخبارها، غير أنها سرعان ما آلت إلى مجلة أدبية وعلمية راقية ساهم بالكتابة فيها كبار الكتّاب في العراق وخارجه أمثال جواد علي، مصطفى جواد، كوركيس عواد وغيرهم. وقد ملأت مجلة المكتبة فراغاً هائلاً في الحركة الفكرية، إذ صدرت قبل أن تظهر المجلات المتخصصة بمواضيعها، وقد تضمنت نشرة شهرية بالكتب والمخطوطات والمؤلفات والبحوث الصادرة في العراق والوطن العربي والعالم، وكانت توزع في أرجاء عديدة من العالم.
كما كان لمكتبة المثنى مجلس أسبوعي شهير يقام في باحتها يحضره أدباء ومؤلفون وقادة فكر وسياسة، منهم: المحامي حسين جميل، والمحامي الأديب أحمد حامد الصراف، وجمال الدين الآلوسي، وفؤاد عباس، والعميد عبدالرحمن التكريتي مؤلف (جمهرة الأمثال البغدادية)، وعبدالقادر البراك صاحب جريدتي: (الأيام) و (البلد)، وكوركيس عواد مدير مكتبة المتحف العراقي، وغيرهم من الوزراء والملوك.
توفي قاسم الرجب عام 1974 وترك المكتبة لأولاده ومنهم أنس، الذي اضطلع بمهمة إدارة المكتبة الرئيسية وكان قبلها يدير فرع المكتبة في الباب الشرقي، إذ واصلوا مسيرة والدهم في نشر ثقافة العلم والمعرفة والكتاب.

حريق يلتهم الكتب
في العشرين من آب/ 1999 نشب حريق هائل في مبنى المكتبة، محولاً آلاف الكتب والمطبوعات التي كانت تغص بها قاعات المكتبة الثلاث عشرة إلى عدم. يؤكد ابراهيم، الذي كان شاهداً على الحريق موثقاً إياه بالعديد من الصور، أن المبنى المؤلف من طابقين تضرر كثيراً بعد انتشار النيران واتساعها، وأنهم لم يتمكنوا من إنقاذ الكثير من الكتب، جراء النيران وإتلاف المياه لها، ومثّل الحدث فاجعة كبرى في عالم الثقافة والأدب والفن لما لمكتبة المثنى من أهمية باعتبارها إرثاً وطنياً وقومياً مهماً.
بعد ذلك، تمكنت المكتبة من الاستمرار في تواصلها مع المؤسسات الثقافية ودور النشر، كما استمر العمل على إعادة ترميم مبناها الأثري وفق المخططات التراثية القديمة، بإمكانيات شخصية بحتة، ولكن نتيجة للحروب المتراكمة التي عاشها العراق، لم تعد المكتبة كما كانت، وانتهت معها حقبة حبلى بالثقافة والشواهد الحيّة، لبلاد كانت وما زالت منتجة للأدب والمعرفة.