منبر الحسين ترتيلات يرددها العشاق

377

عادل مكي/
للقصيدة المنبرية دور كبير في تخليد ملحمة عاشوراء على مر الأزمان والحقب منذ حدوثها حتى يومنا هذا بأساليب وطرق متعددة، فقد كانت مناراً متوقداٍ وترتيلة يرددها عشاق الإمام الحسين عليه السلام. إن للمنبر الحسيني الدور الأهم والأكبر بتوثيق تلك الملحمة التاريخية العظيمة عبر خلودها الأزلي بكلمات سطرها شعراء القصيدة الحسينية جيلاً بعد جيل بلا كلل او ملل حباً بالحسين وأهل بيته عليهم السلام .
فكان للرادود الحسيني الدور الأهم والأعم في نشر مظلومية أهل البيت من خلال (اللطمية) التي تقدم على المنبر الحسيني، فدور الرادود ينصب في تصوير وتجسيد الواقعة من خلال حلاوة صوته وطريقته في التأثير من خلال استخدام الأنغام والأوزان التي يعتمد عليها. والمشهور تاريخياً أن أول مجلس حسيني أقيم بكربلاء في الليلة الحادية عشرة من محرم الحرام بعد مقتل الإمام الحسين وبرعاية ابنه الإمام علي بن الحسين وبحضور أهل بيته، بعد ذلك أقيم مأتم آخر في الشام في قصر يزيد بن معاوية عندما وصلت السبايا الى مجلس يزيد، فأقامت هند بنت عبد الله بن عامر بن كريس مجلساً حسينياً رغم معارضة زوجها يزيد، ومن تلك اللحظة بدأ مسلسل الندب والبكاء والحزن الذي لم ينقطع وبحكم الظروف التاريخية، ولاسيما في عهد الدولتين الأموية والعباسية.
كادت مظاهر الندب أن تختفي وصارت تمارس بسرية تامة، ثم ظهرت مظاهرها من جديد في عهد البويهيين ببغداد والفاطميين في القاهرة والصفويين في إيران وفي شمال سوريا وحلب وأيام الدولة الحمدانية، وامتدت الى عصرنا الحالي.
ثم تطور الأمر فبدأت المواكب تكبر وانتقل العزاء من المأتم الى الخارج، وفي حدود ساحات معينة وبدون مكبرات صوتية. وبتطور الحياة تطورت تلك الشعيرة وصار انتشارها واسعاً وكبيراً لأنها طقس بصري غير دموي فيه تكرار لحني يعتمد على تموجات الصوت من خلال درجة الانفعال الحسي وفق ضوابط محددة يتشكل فيها صوت الرادود مع الأشخاص الموجودين داخل تلك الحلقة العزائية.
كما صارت النصوص المنبرية تحمل رسائل بعيدة عن الحزن واستدرار العواطف على حساب الحقيقة، تلك المحددات أنتجت نصاً حسينياً يخلد مدى الدهر، وكأن مهمة الشاعر أن يقدم صوراً متحركة شاملة بطريقة التوثيق والتجديد واعتماد التنوع من خلال الإبحار في رسم لوحات رمزية تعبيرية مرتبطة بالواقع او الخيال الحسي، مشحونة بالعاطفة والوجدان والتضحية والدموع، فأبدعت جمهرة كبيرة من شعراء القصيدة الحسينية مثل: كاظم منظور، ومهدي الأموي، وعبود غفلة، وعبد الأمير الفتلاوي، وغيرهم في تصوير ونقل أحداث الواقعة الأليمة التي خصها الله باستمرارية العزاء الحسيني الى يوم الدين، إذ كان العزاء الحسيني يعتمد في سالف الأزمان على الرواديد فقط، فبعد انتهاء الخطيب المنبري من القراءة يبدأ الرادود بقراءة القصيدة على المستمعين وهم جلوس يلطمون على رؤوسهم وصدورهم،
مرت منابر (اللطم) بفترات متعددة وحدث عليها أكثر من تطور في الأسلوب المتبع قديماً، ولاسيما في النجف الأشرف وكربلاء، هو الأسلوب الخاص بتلك المناطق الذي يعتمد على الايقاع والرتم البطيء مثل: (جابر يا جابر) و(يحسين بضمايرنا). إلا أن اللطميات، وبسبب الحداثة أخذت أشكالاً مختلفة ومتعددة بظهور جيل مجدد من الرواديد أمثال الحاج باسم الكربلائي، الذي أسس لمدرسة إنشادية حسينية عظيمة تجد فيها إحياء التراث مع التجديد والابتكار، فهو صوت نادر وهادر يختلف كليا عن الأصوات البشرية، لأن الله خصه بتلك الهبة الإلهية من حيث النقاوة والعذوبة والطبقات الصوتية النادرة في جواب الجواب وفي قرار القرار وسرعة تحول عجيبة من نغم الى آخر، فهو العارف الذي لا يعرّف لأنه يتمتع بذائقة سمعية رفيعة المستوى في الانتقاء الرصين بنوعيه: الرثائي والرسالي، فاستخدم إيقاعات وأوزاناً لم تستخدم من ذي قبل، أدخل فيها عنصر التوزيع الهارموني بالقرار والمستعار وعلى يد أمهر الموزعين أمثال الموزع اللبناني ميشال فاضل، وفي أحدث الستوديوهات العالمية، فخرجت الينا قصائد غاية في الجودة والمضمون مثل (ياقارورة ) وغيرها من اللطميات المميزة، وكان الرواديد العراقيون على تواصل دائم باحثين عن التجديد والتنوع مثل أبي بشير النجفي وملا جليل الكربلائي وقحطان البديري وآخرين، الذين قدموا وما زالوا يقدمون روائع كبيرة من القصائد واللطميات التي يتلقفها المحبون من كل حدب وصوب.
عزز هذا التوجه وجود الكثير من الحسينيات المنتشرة في كل بقاع العراق التي احتضنت وتحتضن هؤلاء الرواديد لكي يقدموا ما لديهم من مراثٍ إبداعية من خلال منابرها الحسينية خدمة لقضية سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام.
ولو أردنا الغوص والتبحر في ذلك الأمر فإننا سنحتاج الى أكثر من وقفة وأكثر مقال لأن الموضوع متأصل وعميق في ذاكرة الزمن وذاكرة محبي آل بيت النبي الأكارم.