من التذبذب إلى الاستقرار المبادأة والمبادرة.. الحل لمشكلة أسعار الصرف في الأسواق العراقية

103

زياد الهاشمي – باحث في الاقتصاد الدولي /

تصوير : حسين طالب /

تشهد الأسواق العراقية بين حين وآخر تذبذباً مفاجئاً في أسعار صرف الدولار بعد أشهر من الاستقرار والتحسن التدريجي في قيمة الدينار العراقي أمام العملات الصعبة، ولاسيما الدولار الأميركي، في تأكيد جديد على أن قصة أسعار صرف الدولار لاتزال فصولها لم تنته بعد، وأن هناك فصولاً أخرى مقبلة تتعلق بعلاقة الدينار مع الدولار. فعلى مدى الأشهر الـ ( 18) الماضية كان من الملاحظ أن هناك مساعي وعملاً واضحاً من قبل السلطات الرسمية العراقية، سواء على مستوى السلطة النقدية المتمثلة بالبنك المركزي العراقي، أو السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة العراقية، لتفكيك مشكلة أسعار الصرف ومعالجتها واحتواء آثارها السلبية وتخليص الاقتصاد والمجتمع العراقي من تبعاتها، من خلال تطبيق العديد من الإجراءات والمعالجات للتعامل مع هذه المشكلة المزمنة والمؤرقة، ومن هذه الإجراءات رفع مستوى الرقابة والتدقيق على الحوالات الخارجية، والتحول التدريجي نحو الدفع الإلكتروني، وفتح الباب للحوالات غير الدولارية، وضبط عمليات التعامل بالدولار النقدي، وتضييق الخناق على العمليات غير النظامية التي يبحث فيها الدينار عن الدولار النقدي، إلى جانب توسيع قواعد الرصد والمتابعة والتدقيق الحدودي لتقليص عمليات التهريب للأموال والبضائع الداخلة والخارجة إلى العراق، وغير ذلك من معالجات وحلول.
انسيابية الحوالات
وقد أفضت هذه المعالجات إلى تحسن مستوى امتثال المصارف العراقية للضوابط المصرفية الدولية وما رافقها من زيادة انضباط والتزام الشركات التجارية العراقية، وتحسن الأداء المصرفي العراقي، وتوسع قاعدة البنوك المراسلة، التي ساعدت بشكل فعال في تسهيل انسيابية الحوالات لغرض تغطية الاستيرادات العراقية، وهذا ما رفع بشكل واضح حجم مبيعات الدولار والحوالات الرسمية وأسهم في نفس الوقت في ردم جزء من الفجوة السعرية بين سعر الصرف الرسمي للدولار وما يقابله من أسعار صرف غير رسمية. وعلى الرغم من كل هذه الخطوات والإجراءات الرسمية التي جرى تطبيقها خلال الفترات الماضية، إلا أن حدوث بعض الاختلالات والإشكالات التي تتعلق بحركة الدولار، سواء انسيابية الحوالات الدولارية أو حجم تلك الحوالات، قد أدى إلى حدوث انخفاض ملحوظ في قيمة الدينار العراقي خلال الأسابيع القليلة الماضية، الذي تعزوه بعض التقارير إلى تضييق الفيدرالي الأميركي على الحوالات العراقية التي تجري باليوان الصيني لتغطية الاستيرادات من الصين، وهذا ما أسهم سلباً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالتأثير على الأسواق الداخلية في العراق وعودة أسعار صرف الدولار الى الارتفاع في الأسواق غير النظامية.

مؤشر إيجابي
لكن من الملاحظ أن ارتفاعات أسعار الصرف التي حدثت هذه المرة لم تحمل الكثير من الآثار السلبية على الأسواق والاقتصاد العراقي، كما كان يحدث خلال الارتفاعات السابقة، فارتفاع أسعار صرف الدولار الذي حدث مؤخراً كانت آثاره نفسية أكثر منها حقيقية على الأسواق، فنطاق تذبذب أسعار الصرف كان محدوداً وتأثر أسعار السلع والخدمات يكاد يكون هامشياً، وهذا مؤشر إيجابي على نشوء ما يمكن وصفه بالتكيف السوقي داخل القطاعات التجارية والاقتصادية العراقية مع التذبذبات التي قد تحصل بين حين و آخر في أسعار الصرف في السوق غير النظامية، فلا خلاف في أن الانضباط النقدي والمصرفي اليوم هو أفضل كثيراً من السنوات السابقة، وأن العراق بدأ السير على الطريق الصحيح في مسألة التعامل مع معضلة أسعار الصرف واحتواء آثارها. لكن بالرغم من ذلك، فإن مسألة تذبذب أسعار الصرف وارتفاع قيمة الدولار ستبقى مسألة متوقعة الحدوث في أي وقت وتحت أي ظرف، نتيجة استمرار نشاط وفاعلية عوامل ارتفاع أسعار الصرف، وأهم تلك العوامل استمرار نشاط التجارة غير النظامية والعمليات غير القانونية عبر الحدود وغير ذلك من مسببات تؤدي إلى خلق طلب مستمر وغير منضبط ولا مسيطر عليه على الدولار، وهذا ما يتطلب إجراءات أوسع وأكثر فاعلية تتعامل مع جذور المشكلة أكثر من التركيز على النتائج والآثار.
إضافة الى ذلك، فإنه من المفيد ألا ننظر دائماً إلى مسألة ارتفاعات أسعار الصرف على أنها مؤشرات سلبية بالمطلق، إذ إن هذه الارتفاعات تحمل مدلولات عديدة يمكن اعتبار أحدها بمثابة جرس إنذار ينبه ويحفز صناع القرار العراقي للتحرك على أساس المبادرة والمبادأة وتوسيع العمل على محاور أخرى لا تقل أهمية عن المعالجات النقدية والمصرفية، وأهمها زيادة التركيز على دعم عمليات ونشاطات القطاع الخاص بشقيه الصناعي والخدمي، والعمل الجاد ضمن خطط مركزية لتحريك عجلة القطاعات الصناعية والتنموية والزراعية، والهدف الستراتيجي هو خلق اقتصاد متنوع قادر على الدخول والمشاركة والاندماج والتكامل مع القطاعات الانتاجية والخدمية المحلية وحتى الإقليمية والدولية، وحينها سيتمكن الاقتصاد العراقي بشكل تدريجي من خلق أبواب جديدة لتوليد العوائد والايرادات بشكل مستدام، وهذا ما سوف يقلل تلقائياً من الاعتمادية العالية على البترودولار.

مقاربات جديدة
ختاماً، فإن معالجة مشكلة عدم استقرار أسعار الصرف وتأثر قيمة الدينار أمام العملات الأخرى بشكل نهائي وحاسم تحتاج إلى بعض الوقت، وهذا ما يتطلب استمرارية ومطاولة من قبل السلطات الرسمية العراقية في مساعيها للبحث دائماً عن حلول ومعالجات جديدة وأكثر فاعلية للتعامل مع هذه المشكلة وغيرها من إشكالات واختلالات تتعلق بالاقتصاد العراقي، وتفكيراً خارج الصندوق يكون فيه العمل للتعامل مع أسباب الخلل داخلياً أولاً ومن ثم الاتجاه نحو الخارج، بدلاً من انتظار حدوث أزمة جديدة أو مشكلة مستحدثة ليجري على أساسها البدء بالتحرك وبطريقة ردات الفعل، إذ إن المشكلة النقدية هي مشكلة قديمة متجددة، لذلك فهي تحتاج دائماً إلى مقاربات جديدة، بل مبتكرة، لمعالجتها بطريقة أكثر تأثيراً وفاعلية.