من السبي والاغتصاب إلى الزواج المقدس شباب إيزيديون يعيدون للناجيات كرامتهن المسلوبة

323

آية منصور/

من منبوذات يعانين من جروح نفسية عميقة، بعد أن تعرضن لفظائع الاغتصاب على أيدي عناصر تنظيم “داعش”، إلى نساء يتسابق الشبان الإيزيديون على الارتباط بهن، فيحولون الجراح العميقة التي تركها مجرمو “داعش” في أرواحهن الى شعور بالمجد والكرامة، وهن يبدأن حياتهن الجديدة مع شباب قرروا الارتباط بسبايا داعش، وبناء مستقبلهم معهن.
بدأ ذلك كمبادرة فردية، ثم توسعت لتشمل مجموعة أصدقاء قرروا إعادة الكرامة لنساء لا ذنب لهن فيما جرى من جرائم، فكان التفكير بالارتباط بهن هو أفضل رد على جريمة داعش، الذي استباح شرفهن وكرامتهن، بعد مقاومة دفعت العديد من النساء الإيزيديات أرواحهن ثمناً لها. ثم تحولت تلك المبادرة الرائعة الى رسالة اجتماعية، إذ جرى –مؤخراً- زواج هيثم أحمد جاسو، بالناجية ليالي سعيد جزاع، والشاب أيهم علي بالناجية سلوى سيدو وصباح حسن بالناجية شارز مدلول.
ولعل الشاب نصير، الذي كان يجمع الأموال من الناجين لدفعها للسائقين والمهربين للنساء والأطفال، قد نجح في إنقاذ سبعين شابة وطفلاً، وكان أول من قرر الزواج بإحدى الناجيات بعد فك أسرهن من قيود التنظيم.
في رحلتها المُضنية، للهروب من عناصر التنظيم الارهابي تعرفت دعاء على الشاب نصير، الذي نقلها الى أحد المخيمات، حيث تعمل منظمة إنسانية على تأهيل الناجيات ورعايتهن نفسياً، طلب نصير يدها، لكنها أخبرته بأن حياتها باتت بائسة، ولم تعد تصلح لتكون زوجة لشاب مثله، فقد تعرضت لأبشع المعاملات الجسدية التي لا يمكن تخيلها، بيد أن نصيراً أصر على الارتباط بها، وأخبرها بأن ما حدث لها لا ذنب لها فيه، وهو أمر تعرضت له آلاف النساء.
تقول دعاء إن نصيراً أنقذ حياتها مرتين، مرة من إجرام داعش، ومرة أخرى عندما فتح لها نافذة واسعة تطل منها على حياة جديدة.
الى ذلك، يؤكد الباحث داود مراد الختاري، أن “خطوة الزواج بالناجيات من قبل الشباب الإيزيديين، إنما هي دليل على الشيمة والغيرة، فضلاً عن كونها دافعاً لرفع الظلم والمعاناة عنهن، وهي أيضاً خطوة مقدسة دينياً واجتماعياً، ورسالة الى أعدائهم في نفس الوقت، تؤكد أن المجتمع الإيزيدي عازم على مواصلة حياته الطبيعية.”
المغتصبات
الشابة البالغة من العمر حالياً ثمانية وعشرين عاماً، سُبيت وزُوجت اغتصاباً لمراتٍ عدة بقادةِ من داعش الذين تناوبوا على استباحتها عام 2014، وكلما قُتل أحدهم، حلّ مكانه مجرم آخر، مع أن كل ما كانت تريدهُ في حياتها هو أن تعيش في كنفِ والديها وأحبتها بسلامٍ وطمأنينة..
بعينين مغرورقتين بالدمع، تستذكر لونا شيخالي مصيبتها، قائلة: “كانت أياماً تعيسة لدرجة لا يمكنني شرحها، أو حتى وصفها، إذ فجأة توقفت الأرض عن الدوران، وتوقف الزمن في محطات مرعبة دفعنا ثمنها سنيناً ودماً، الى أن عدت أخيراً الى قريتي وعائلتي الغاصة بنساء إيزيديات مؤمنات بالحياة رغم ظليمتهن، داهمتهن يوماً قوة إرهابية واقتادتهن الى عالم المجهول والسبي والتجويع والتعنيف، لكنهن تمكنّ من استعادة الروح وبدأن الحياة مجدداً، تزوجن وأنجبن، وصرن يحلمن بواقع أفضل لأسرهن.”
في “مجلة الشبكة” تحاورنا مع بعض من صاحبات القصص المؤلمة، والملهمة في ذاتِ الوقت.
جوارٍ وأطفال خدمة
تسترجع لونا شيخالي حكايتها مع السبي بحزن وغصة ما زالا موجودين في روحها، ولم تستطع أن تتخلص منهما، لكنها تعايشت معهما مضطرة، إذ نقلت -مع عشرات النساء- الى مدينة لا تعرفها، اتضح فيما بعد أنها ليست في محافظتها، وليست في بلدها، ولأشهرٍ من التعذيب الجسدي والنفسي والاعتداء المستمر، ثم تزويجها لأكثر من خمس مرات، وفي كل مرة يموت الزوج المجرم، فيعاد تزويجها بآخر لأنها “البكر الصغيرة والجميلة.”
“كانوا يتعاملون بإجرام وتمييز وعنصرية حتى مع النساء، فمن يجري سبيها مع أولادها لا يتزوجونها، بل يتركونها بمثابة جارية لهم، وأولادها سيكونون خدماً وعبيداً لمتطلباتهم، كانوا يأمروننا بالعمل -كخدم- في صناعة الصواريخ، ولاسيما الأطفال الذين استشهد الكثير منهم متأثرين بجراحهم أثناء صنع أو تفكيك عبوة أو صاروخ.”
جحيم تحت الظلام
وتبين لونا، وهي تسرد شريط سبيها المظلم، أن “الاعتداء عليها كان يجري يومياً، وأنها حاولت -مراراً وتكراراً- الانتحار، بل إنها حاولت قتل أحد القادة بسكين، وهددته بقتل نفسها فيما بعد، إلا أنهم تمكنوا من الإمساك بها بالقوة ومعاقبتها بالاعتداء عليها بصورة جماعية، والإيغال بتحقير شرفها، لا يكاد يمر يوم دون أن أتخيل فيه ذلك المشهد، لكنه كان اللحظة القاتلة التي قررت فيها الهروب والظفر بما تبقى لي من أمل في هذه الحياة، لم أكن أعرف أين عائلتي، وما هو مصير إخوتي وأخواتي، ركضتُ لساعات، حتى وصلت الى أحد البيوت، حيث استقبلتني فيه عائلة ساعدتني في تهريبي فيما بعد.” بعد ذلك عانت لونا الكثير في رحلة البحث عن أهلها، وقد ساعدها شخص ما، وأصبح -فيما بعد- زوجها ورفيق دربها، مؤكدة بأنه مكنها من التواصل مع ذويها الذين كانوا قد انتقلوا للعيش بمخيم في دهوك.
كرمان الموصلي، زوج لونا، الذي كان يجلس بجوارها، قال إنه “أحب طريقة تعلقها بأهلها والاستمرار في البحث عنهم بأمل كبير، على الرغم من فراقها عنهم لأكثر من سنتين، أكثر ما أكرهه حينما أسمع بعض الناس يقولون عنها إنها (مغتصبة) وكيف يتزوج شخص ما من امرأة قد تعرضت للاعتداء من قبل مجموعة من البرابرة، إنها بشر مثلنا، فلماذا هذه النظرة الضيقة؟ هل يمكن أن يكون الإقصاء والرفض المجتمعي نصيب وجزاء من واجهن كل هذا الألم، أنا لم أنظر إليها على أنها سبيّة مطلقاً، بل هي في نظري كانت –وستظل- أجمل وأنقى امرأة قابلتها.”
الرصاصة مقابل الرفض
شيرين كامل، تعرضت للسبي هي الأخرى، وأمام أنظار إخوتها الذين واجهوا عصابات داعش بقوة وبسالة، ثم جرى قتلهم جميعاً بدم بارد، تسترجع -بشريط ذاكرتها- مخزون الأسى والبشاعة الداعشية في يوم سبيها الأسود، قائلة:
“حينما علمنا أن داعش متجه نحو قريتنا في الموصل، طلب إخوتي منا الهروب، جهزوا سيارة لحملنا جميعاً وبعيداً، وظلوا لمواجهتهم هنا، باءت محاولاتنا لجلبهم بالفشل، هربنا في السيارة وتركناهم لمواجهةِ رصاصات داعش، ولم تنته القصة حتى هنا، إذ اكتشفنا وجود سيطرات خاصة بهم تنتظرنا، أنزلونا أنا وأخواتي وأمي وأخذونا سبايا”.
في البدء، كانت شقيقات شيرين الخمس وأمها معاً، لكنهن تفرقن فيما بعد ولم ترهن حتى يومنا هذا، إذ حاولت ذلك بعد إنقاذها في إحدى الحملات العسكرية، بعد سنوات من التعذيب، حين ساعدت قوات الجيش في إنقاذها مع مجموعة من النساء المختطفات.
“عرفت -فيما بعد- أن اثنتين من شقيقاتي قد قتلتا، وواحدة منهن انتحرت، أما أمي وشقيقتيّ الأخريين فقد تمكنّ من الهرب بعد إنقاذهن الى خارج العراق، حالياً أنا اتحدث معهن عن طريق الإنترنيت، وأفرح بنجاتهن”.
زفاف في المخيم
بعد أن عاشت شيرين في المخيم مع بقية أقاربها الناجين، تعرفت الى الشاب يوسف في نفس المخيم، وقررا الزواج داخل الخيمة وسط فرحة جيرانهما، مؤكدة أن “أهالي المخيم تبرعوا بتجهيزات زواجهما، وأنها اليوم، برغم آلام الماضي، استطاعت أن تحظى بإنسان عوضها عن مرارة الدنيا وبشاعة الأيام السابقة، كما أنه يساعدها كثيراً في مواجهة الذكريات بشجاعة.” لكنها توضح:
“أعاني من كوابيس وأحلام متكررة عن إخوتي وأخواتي وأمي، ويساعدني يوسف على تقبل ما حصل لي بالعيش في الحاضر، واستمرار الحياة لأجل من أحب ومن فقدت، هو سندي وأكثر من احتواني بعد أزمتي.”
رُعب وهروب
أما دعاء كوجو، البالغة من العمر أربعة وعشرين عاماً، فقد تعرضت أيضاً الى الاختطاف والسبي، حينما تزوج بها أحد قياديي تنظيم داعش المجرم، الذي قُتل في إحدى الغارات، ثم تمكنت من الهرب والحصول على المساعدة من قبل أحد الأشخاص، الذي أخذ على عاتقه مهمة معاونة النساء والأطفال المختطفين، وقد أخبرتها إحدى المختطفات عن وجود شخص قادر على إخراجهن من تلك البؤرة، ولم تصدق في بداية الأمر، هنا تسترجع دعاء اللقطة بذهول:
“ذهبت معها، وأنا ارتجف، لأنهم كانوا يريدون تزويجي بمجرم آخر، فنحن -صغيرات السن- المفضلات لإشباع بشاعاتهم، اتصلت رفيقتي بأحدهم لمساعدتنا، فقدمت إحدى السيارات لتهريبنا، بصراحة لم أكن مصدقة، التفاصيل أكثر رعباً مما أذكره، كنت خائفة طوال الطريق، وأشك في أن من ينقلنا هو جاسوس أو متعاون معهم، لكنه أوصلنا الى عائلة تكفلت هي الأخرى بإرسالنا الى خارج العراق/ تركيا تحديداً، ثم العودة الى دهوك.”