من تراث المكان البغدادي جامع المصلوب.. حكايات وطقوس
خضير الزيدي – تصوير/ علي الغرباوي
مازالت مدينة بغداد القديمة تحتفظ بالكثير من المعالم التراثية، فبين الفروع الضيقة والأزقة القديمة من محلة (القشل)، حيث عبق روائح بيوتها وشبابيكها العتيقة، شيد قبل أكثر من ثلاثمئة عام في عهد الدولة العثمانية مسجد المصلوب، الذي أصبح فيما بعد بمنارته العالية وطرازه القديم مصلىً تتوافد عليه غالبية سكنة محلات الصدرية والهيتاويين والقشل والدهانة.
عرف جامع المصلوب بهذا الاسم بحكايات تواردتها الأخبار من العهد العثماني، إذ يقال إن أحد المعارضين لذلك الحكم قد صلب على جدران هذا المسجد يوم كانت بغداد ولاية من ولايات الدولة العثمانية. أما الحكاية الثانية فيرويها العلّامة مصطفى جواد عن صلب أحد اللصوص على خشبات جدار الجامع. بينما تتحدث رواية أخرى عما شهده العام 1886من صلب أحد الرجال الصالحين، واسمه محمد تقي الحسني. ومن يومها أطلقت على هذا المسجد الشريف تلك الصفة، لينتهي به المطاف تحت مسمى جامع المصلوب.
يبلغ ارتفاع بوابته ثلاثة أمتار، عليها نقوش ومقرنصات شيدت بدقة ومتانة تسر الناظرين، ويدرك من يشاهد سقفه ومدخله الأمامي أن لبنات الزخارف تنم عن طراز معماري يشكل برصانته وقدم نقوشه رونقاً وقدسية لمدخل هذا الجامع، فهو لا يختلف عن بقية جوامع محلات بغداد القديمة بما يمتاز به من طراز معماري.
روح شرقية
شيدت منارته البالغة عشرين متراً على قاعدة ثمانية الأضلاع مقرنصة، ومع كل هذه السنوات الطوال ومتغيرات الطقس، إلا أن منارة جامع المصلوب حافظت على قيمتها المعمارية وبقيت حتى يومنا هذا مميزة بجلال وعظمة إطلالتها وتكبيرات المؤذن فيها. هناك أيضاً الآيات القرآنية التي خطت بدقة متناهية وببراعة فنية تزين جدران المسجد، حيث راعى مصممو تلك الجدران القيم التعبيرية والإسلامية التي جعلت ملامح الكتابة ونوعية الخط أكثر انسجاماً في التصميم الهندسي لشكل المسجد، وهذا ما أضاف لمسة وروحاً شرقيتين على المباني التراثية ذات الطراز الإسلامي.
يحيط بالجامع في الجهة الأخرى سور بنائي يبلغ ارتفاعه أكثر من ثمانية أمتار، شيد هو الآخر بطراز وأشكال تستوحي الأثر الإسلامي ليظهر هيبة الجامع ومكانته القدسية. يروي لنا لسان التاريخ الكثير من الحكايات عن هذا الجامع، الذي بقيت أحلام الناس في منطقتي القشل والدهانة اللتين يتوسطهما جامع المصلوب أنه بحاجة إلى من يوسع رقعته الجغرافية، فشاءت الأقدار أن تتبرع امرأة ببيتها المجاور للمسجد لتضاف تلك الأرض إلى بنايته، ثم أضيفت له بعد فترة أخرى مساحة من دار أخرى اشترتها عائلة السيد الحيدري.
مكانة دينية
كما يذكر التاريخ المعاصر أن سماحة السيد صادق الحسني البغدادي كان إماماً للجماعة في جامع المصلوب في بدايات القرن المنصرم، وبعد وفاته تحمل واجب الإمامة والإشراف على الجامع الشيخ عباس المسلماوي. وفي أواسط العقد الثلاثيني من القرن الماضي انيطت مهمة صلاة الجماعة بالشيخ مصطفى حسين البغدادي، فيما كان لعائلة السيد الحيدري الفضل الكبير في إدارة الجامع والاهتمام به، ففي العام ألف وتسعمئة وخمسة وثلاثين أصبح السيد عبد الكريم الحيدري خطيباً وإماماً لجامع المصلوب حتى الأربعينيات من ذلك القرن، من بعده تولى الجامع السيد راضي الحيدري، الذي عرف رجلاً ورعاً تقياً مجاهداً، قاتل الإنكليز مع والده. وبعد وفاته تحمل مسؤولية جامع المصلوب السيد طاهر الحيدري، الذي امتاز بمقاومة طغمة البعث وعدم الانصياع لمطالبهم، إذ بقي صامداً ثابتاً على إرادة النهج السليم، وهذا ما أزعج سلطة البعث لتدس في جسده الطاهر سم الثاليوم، لينتقل إلى جوار ربه في السادس عشر من كانون الأول من العام ألف وتسعمئة وثمانين. قدم السيد طاهر الحيدري في جامع المصلوب محاضرات قيمة في الإرشاد الديني، وكان لمكانته الدينية الأثر الواضح في حل المسائل المستعصية يومذاك، إضافة لتميزه كعضو في جماعة العلماء في بغداد. كما لم يشهد تاريخنا المحاصر إماماً لجامع المصلوب مثل نجله السيد محمد الحيدري بورعه وتقواه ومكانته العلمية قياساً بحوزة بغداد الدينية.
مخطوطات نادرة
في بداية عام ألف وتسعمئة واثنين وخمسين تأسست في جامع المصلوب مكتبة متواضعة على يد السيد راضي الحيدري، سرعان ما كبرت رفوفها وازدادت مصادرها الفقهية والتاريخية، إضافة إلى العشرات من المخطوطات النادرة وكتب الحديث والنحو، ثم توسعت هذه المكتبة عام ألف وتسعمئة وستين على يد السيد طاهر الحيدري، الذي كان لعقليته يوم ذاك الفضل الأول في توسيع هذه المكتبة. وبعده واصل نجله السيد محمد الحيدري الاهتمام بها، فسارع في العام ألف وتسعمئة وتسعين ليضيف لها مصادر جديدة ومتنوعة، ليجعلها عامرة بأمهات الكتب الدينية.
يضم جامع المصلوب مصلىً واسعاً ينفتح على سبعة أبواب من الحديد بارتفاع ثلاثة أمتار، يخضع للتوسيع والإعمار والصيانة بين فترة وأخرى، تبلغ مساحته أكثر من ثلاثمئة متر مربع، ويبلغ ارتفاع سقف المصلى أكثر من سبعة أمتار تتوسطه قاعدة قوية بقطر نصف متر مستديرة الشكل لتسند ذلك السقف الذي شيدت على جدرانه آيات قرآنية زينت بزخارف القاشاني.