نـور.. حلمي أن أبصر لحظة لأرى وجه أمي

182

حاورتها : نور الهدى عبد الرزاق /

في غرفة باردة، داخل مستشفىٍ عراقي قديم، قالوا إن طفلة حسناء ولدت بعينين براقتين مطفأتين، أخبروا أمها أن “ابنتكِ ولدت كفيفة، خذيها وليساعدك الله.” وعندما خرجت ولامست خيوط الشمس وجه الطفلة ضحكت، فسألوا الأم ماذا ولدتِ؟ قالت: ولدت نوراً كفيفاً. وهكذا كانت نور، تلك الطفلة الجميلة، تكبر وهي تتساءل: ترى ما هو الوصف الأنسب لاسمي؟
كبرت ودرست علوم القرآن في كلية التربية للبنات، حيث أخبرتنا أنها الآن، أخيراً، تعرف كيف يمكن لها أن تصف اسمها، فهي تعتقد أن نوراً، يعني صوت آلام طفل ضرير.
نور طه (٢٠ عاماً) طالبة في قسم علوم القرآن بكلية التربية للبنات، حققت نجاحا لافتاً، وتقديرات عالية في دراستها للبكالوريوس، وقد كوفئت على ذلك من عمادة كليتها وزملائها، فكان ذلك دافعاً لنا لنبحث عنها ونحاورها حباً وإعجاباً..
ولدت ضريرة
* أهلاً يا نور.. حدثيني، ما هو شكل طفولتك؟
– أهلاً بك، لقد ولدت ضريرة بالوراثة في منزل جدي وكنت طفلة هادئة، لم أجرؤ يوماً على الخروج الى الشارع خوفاً مما لا أفهم ولا أعرف، عندما أصبحت بعمر السادسة، دخل أقراني المدرسة، إلا أنا إذ لم يسمح لي أبي بذلك، خوفاً علي من أن أتعرض للمخاطر.
* إذن كيف استطعت بعدها الدراسة؟
– بعد سنتين أستشهد والدي وأصبحت يتيمة، فتكفلت والدتي بتربيتي، وأرادت أن تمنحني حياة افضل، وشخصية أقوى فسجلتني في المدرسة، برغم معارضة أعمامي لها، لكنها أصرت على أن تعطيني لوناً جديداً في حياتي غير الأسود، كان ذلك اللون اسمه المعرفة.
* كيف كانت المدرسة بالنسبة لطفلة بخصوصيتك؟
– كانت حلماً جميلاً، عشته وعشقته، برغم أنني كنت أكبر من أصدقائي في الصف، لكوني متأخرة، لكن كانت معي شقيقتي الصغرى في ذات المرحلة، وكان لوجودها أثر مهم في حالتي الدراسية بالعموم.
* وبعد ذلك؟
-بعدها حصلت على اهتمام فريد من إدارة مدرستي (مدرسة البوعيثة) في الدورة، فقد كانت مديرة المدرسة تسعى من أجل الحصول على الموافقة على قرار التسريع لي، وفعلاً تمكنت من ذلك، وجاءت لجنة من التربية واختبروا ذكائي وقيموني بأنني استحق عبور هاتين المرحلتين واللحاق بأقراني في نفس المرحلة، كان موقف معلماتي مشرفاً حينها.
* إذن افترقت عن أختك، كيف أكملت الدراسة بمفردك؟
– إنها امي العظيمة، فبعد أن أصبحت في مرحلة أكبر من أختي، كانت أمي تأتي معي، وتجلس بجانبي على نفس المقعد في الصف، تنتظرني حتى أنهي فصلي، ثم تأخذني الى البيت، وظلت تفعل ذلك حتى أنهيت الابتدائية ودخلت المتوسطة التي حصلت فيها على رفيقات، وكذلك بنات خالتي اللواتي كن معي في المدرسة يساعدنني ويقفن بجانبي، لقد كنت أحصل على أناس لهم صفات العيون دائماً، كنت أبصر بهم دربي، مدرساتي وصديقاتي وأمي، هم عيناي الأخريان.
* الطلبة الذين يعانون مما تعانين يدرسون في مدارس خاصة، كيف كانت الدراسة في المدارس الرسمية معك؟
– نعم ، المدارس التي ارتدتها لم تكن مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، فلم تكن كتبي مناسبة للمكفوفين، ولم تتوفر وسائل مساعدة، فكانت طريقة دراستي مختلفة جداً، إذ كنت اعتمد على الصوت فقط في حفظ المواد، فبمجرد ان يقرأ أحد لي نصاً او مادة، أحفظها وأفهمها ولا أعود بحاجة لمراجعتها بفضل الله، وقد قامت أمي وصديقاتي ومعلماتي بدور القارئ لي طوال مراحل دراستي.
* كيف كنت تمتحنين ؟
– شفوياً، إذ تخصص لي مدرسة أثناء الامتحانات، تكتب ما أردد لها من إجابات بشكل شفوي، وكانوا يختارون دائما أستاذة غير اختصاص بالمادة لكتابة إجاباتي، وكانت أقسى المراحل هي مرحلة السادس الإعدادي التي تزامنت مع تفشي فايروس كورونا، فلم أكن أحظى بشرح المدرسات، وصعب علي فهم المواد بمفردي، لولا لطف الله، إذ ساعدتني صديقتي المقربة وأمي أيضاً، فتمكنت من اجتياز البكلوريا بنفس الطريقة وحصلت على معدل جيد والحمد لله .
* ما أهم ذكرى لك في المدرسة؟
– كنت في بداية الدراسة الإعدادية أتعرض لكثير من التنمر والإساءة والتجريح، وهذا كان يؤثر على نفسيتي، لكن بالمقابل حصلت على حب مدرساتي بشكل لا يصدق، حتى أنني أتذكر في أحد أيام الامتحانات، كانوا يخصصون لي مقعداً خارجياً في ممر المدرسة، حتى لا يسمع الطلبة الإجابات التي أقولها للمدرسة الكاتبة، يومها كان الشتاء شديد البرودة ، حتى شعرت أن صوتي اختفى من شدة البرد، فجاءت لي معاونة المدرسة بغطاء لفتني به وهمست في أذني: “هيا يا ابنتي، أكملي امتحانك، وارفعي رؤوسنا، فنحن نفتخر بك.” هذا الصوت العظيم مازلت أتذكره جيداً.
* المرحلة الجامعية، هل كان حلمك دراسة علوم القران؟
– في الواقع كان الحلم الأول هو دراسة الإعلام، وقد قُبلت في كلية الاعلام، لكن والدتي خافت علي جداً ألا أتمكن من مواجهة التنمر والصعوبة في هذه المهنة ، فاقتنعت بوجهة نظرها، وأردت دراسة شيء يعوضني عن حلمي، ولم يكن هناك اختصاص أهم من علوم القرآن لإنسانة مثلي، تحتاج أن تحقق شيئاً كبيراً في حياتها.
* الكلية.. هل أحببتها، وهل أحبتك؟
– أحببتها وأحبتني جدا، ومنحتني جمالها، ولطف أشخاصها، وعلمها، تخلصت من التنمر، قويت شخصيتي، كبرت أحلامي وتعطشت لتحقيق المزيد. في اول مرحلة كان الدوام متوقفاً، فدرسنا إلكترونياً، لكن في الثانية بدأت رحلة الحب الطويلة مع الكلية، والآن أريد أن أكمل دراستي العليا، وأن أحصل على الدكتوراه في علوم القرآن.
* نور.. بماذا تحلمين؟
– أحلم ..! قالتها مبتسمة، أحلم أن أبصر ولو للحظة واحدة فقط كي أرى وجه أمي، أمي.. ذلك النور الذي أشتاق وأتعطش إليه بشدة، لا أجد حلماً في هذا الوجود أعز علي من رؤية أمي.. لمرة واحدة فقط.
* وأنا أتمنى لك الإبصار يا نور.. هل هناك ما تريدين أن توصليه لمن يقرأ حكايتك؟
– نعم ، أريد أن يسمع العالم أجمع أن لا مستحيل في هذه الأرض، لا تتوقفوا أبداً، لا تجعلوا الفقر، والضعف، والعجز، والإعاقة، مبررات تمنعكم من التقدم، إذ أننا لم نخلق عبثاً، كلنا أبطال حكاياتنا المختلفة، وظروفنا شديدة الصعوبة، أنا كفيفة، أخذ الله مني البصر لكن رزقني البصيرة وحب الناس والذكاء والتوفيق والإرادة والسعي، فلا يحق لأحد منكم أن ينكر فضل الله عليه.
* لا أريد ذلك، لكن، صار يجب أن أغادرك، فما كلمتك الأخيرة في ختام لقائنا هذا؟
– شكراً لكم على اهتمامكم بشريحة المعاقين والمكفوفين، شكراً للمعاملة اللطيفة والأخلاق الرفيعة، شكراً لمن سيقرأ قصتي، لدي طلب واحد: أرجوكم ادعوا لي بالصبر.
*حفظك الله وألهمك الصبر والإرادة.