هدمه المغول وفجّره “داعش”.. جامع النوري يستعيد هويته الموصلية وطرازه الفريد

691

ريا عاصي /

قبل أن تكمل القوات العراقية تحرير مدينة الموصل، عمدت عصابات داعش الإرهابية إلى تفجير جامع النوري الذي يعد واحداً من أبرز المعالم التراثية في الموصل ويضم مئذنة الحدباء؛ الأثر الثاني المتبقي من الجامع الذي سبق أن تعرض للهدم أيضاً إبان احتلال المغول للعراق، قبل أن يعاد بناؤه وتوسعته وإضافة المدرسة النورية إليه عام 1944.
في 17 تشرين الثاني 2020 أعلنت رئيسة منظمة اليونسكو الدولية (أودري أزولاي) بدء المسابقة الدولية لإعادة إعمار مجمع جامع النوري في الموصل وتأهيله، ضمن مشروع (إحياء روح الموصل)، الذي تبنّته وزارة الثقافة والآثار العراقية واليونسكو بدعم مالي من دولة الإمارات العربية.
وبحسب اليونسكو فإن الغاية من إعادة إعمار جامع النوري تعد أكثر قيمة مما تبدو عليه، فهي إعادة لذكريات الموصليين في مدينتهم العريقة، ولإعادة إنعاش الحياة والهوية الثقافية في المدينة التي دمرها التنظيم الإرهابي.
هوية العراق
يقول الدكتور (راكان العلاف)، مدير مشروع وطني – اليونسكو عراق: إن مشروع (إحياء روح الموصل) لا يقتصر على إعادة بناء جامع النوري وترميمه، بل يشمل معالم أثرية عدة في الموصل القديمة من ضمنها كنيسة الطاهرة وكنيسة الساعة.
وبيّن العلاف لـ”الشبكة” أن تسليط الضوء على الأبنية الأثرية العراقية عالمياً كان أحد أهم أسباب إطلاق المسابقة دولياً، لأن للموصل تاريخاً إنسانياً عظيماً، ويعد جامع النوري ومئذنته من أبرز هذه المعالم.
وتابع حديثه قائلاً: إن جامع النوري لا يمثل رمزاً دينياً حسب، بل إنه هوية وأثر للعراقيين وللعالم أجمع، إذ يبلغ عمر الجامع 890 عاماً، والأمر نفسه ينطبق على كنيستي الساعة والطاهرة اللتين بنيتا في أوائل القرن التاسع عشر، فالموصل هي مدينة التعايش السلمي، إذ عاش أبناؤها على مر مئات السنين متآخين قبل ظهور الإرهاب الداعشي الذي أحال حياتهم إلى جحيم.
يضيف العلاف: إن المشروع يعيد للموصل رموزها ويتيح لأبنائها فرص عمل ويشجعهم على استرداد روح التسامح والأخاء وتحسين وضعهم المعيشي والاقتصادي.
ويضم مجمع جامع النوري، الواقع في القطاع الشمالي الشرقي من البلدة القديمة على مساحة تقارب 11.050 متراً مربعاً، معالم رئيسة من بينها المئذنة الحدباء ومصلى النوري وعدداً من الأبنية الثانوية ومنطقة واسعة مترامية الأطراف.
كما سيخضع المجمع، الذي تكبّد أضراراً جسيمة في عام 2017، إلى برنامج إعادة تأهيل متكامل يهدف إلى إعادة إعمار مصلى النوري، وفي الوقت نفسه، دمج وظائف جديدة لاستضافتها في المباني الثانوية المصمّمة أو المعاد تأهيلها حديثاً، وذلك من أجل مواصلة ترسيخ الدور الذي اضطلع به هذا المجمع المهم بالنسبة لأهالي الموصل على مدى قرون. وسيشمل البرنامج أيضاً إعادة تصميم المساحة المفتوحة.
حوار الأروقة
وقد فاز فريق هندسي من دولة مصر برئاسة المهندس (صلاح الدين سمير الهريدي)، أستاذ مشارك في جامعة الإسكندرية/ مصر، بتصميم حمل اسم (حوار الأروقة).
وزير الثقافة الدكتور حسن ناظم قال لـ “الشبكة”: هذه المبادرة هي إعلان حقيقي عن بدء محو آثار الإرهاب، إذ أنها مرحلة جديدة وكبيرة لا تتعلق بتأهيل مبنى فقط بقدر ما تتعلق بإحياء التراث المعرفي والعمراني وإعادة بناء التعايش السلمي وتعزيزه ومحو كل مخلفات قوى الظلام.
وأضاف: نحن نعمل بخطى حثيثة من أجل إعادة الهوية الوطنية التراثية، لا في الموصل وحدها، بل في جميع المدن العراقية التي طالها الظلام والتخريب.
من جهته، أعرب رئيس ديوان الوقف السني (سعد كمبش) عن امتنانه قائلاً: إن الوقف السني ممتن جداً لاهتمام الدولة ووزير الثقافة والآثار شخصياً بإعادة الحدباء إلى سابق عهدها رمزاً وطنياً.
وأضاف: إن كوادر الوقف السني في الموصل حريصة كل الحرص على التعاون مع المهندسين والمتخصصين لإعادة تأهيل كل حجر هُدم أثناء احتلال داعش.
جدل المواقع الإلكترونية
أثار إعلان الفائز بالمسابقة جدلاً كبيراً على مواقع التواصل، فقد أثار المهندس (إحسان فتحي) بعض الاعتراضات على المشروع، بدءاً من اعتراضه على لجنة التحكيم إلى اعتراضه على التصميم، إذ قال: إن التصميم لا يعبر عن روح هذه المدينة العظيمة… وسوف يؤسس لسابقة خاطئة للمدينة… ويتساءل الناس: هل سيُسمح بإعادة كنيسة الطاهرة المدمرة بأسلوب حديث كالذي يراد لجامع النوري أم يعاد ترميمها إلى ما كانت عليه سابقاً؟
أما المؤرخ والباحث الدكتور (سيار الجميل) فقد انتقد هذه الحملة قائلاً: إن الحملة المضادة لمشروع إعادة إعمار الجامع النوري الكبير أمر محزن للغاية .. وبدل أن تشكر الموصل ما قدمته اليونسكو ودولة الإمارات العربية المتحدة راحوا يعارضون هذا المشروع تحت حجج واهية ويتهمون مستشاريه، وكل معارضتهم لن تصمد أمام حقائق الأشياء كونها بلا أية أسانيد ولا أية حجج.
وأضاف: لا يمكنكم الدفاع عن هوية الجامع لكونه قد نال من التجديدات في كل عصر من العصور وعلى امتداد قرابة 900 سنة، ولم تبق منه إلا منارته التي لا يمكن أبداً إرجاعها ثانية إلى ما كانت عليه.
رسالة اطمئنان
من جانبه، يقول الدكتور (أحمد العمري)، أحد أعضاء لجنة المسابقة، ورئيس قسم العمارة في جامعة الموصل: أود عبر مجلتكم أن أؤكد حرص اللجنة على تقديم الأفضل للموصل، وبصفتي أحد أعضاء اللجنة للمسابقة أطمئن الجميع إلى أن التصميم الفائز بالمسابقة يلبي تطلعات أهالي مدينة الموصل بإعادة بناء الجامع ليعود كما كان في ذاكرتهم القريبة بواجهته الحجرية وجماليات تصميمه الداخلي من عقود وأقواس وتيجان مرمرية وإضافة طرح جديد في توظيف الإضاءة الطبيعية السقفية لتسهم في إبراز روحية جميلة من خلال التلاعب بالظلال والأضواء.
أضاف العمري: نحن في لجنة التحكيم لا نعرف صاحب التصميم، وهدفنا هو إيجاد التصميم الأفضل سواء أكان موصلياً أم غيره، وأثناء دراستنا للتصاميم المقدمة كنا نجد إيجابيات في جوانب وسلبيات في أخرى، وما اخترناه كان الأفضل.
وبشأن الاعتراضات الخاصة بالسقف قال العمري: الإضاءة السقفية ثقافة غير موجودة لدينا. التصميم الفائز تضمن دراسة وجدت أن الإضاءة الحالية غير متجانسة ولا تساعد في إبراز الجانب الجمالي للتصميم الداخلي، واقترح الإضاءة السقفية، وقد وجدت لجنة التحكيم أنها طرح جديد تتيح الحلول التكنولوجية الجديدة اعتماده، وهو جانب جمالي سيوفر الطاقة أيضاً لتقليل الإنارة الاصطناعية، وهو من أهداف المباني المستدامة، كما أنه توجه عالمي باعتماد المصادر الطبيعية.
أما عن المعترضين على موقف السيارات فقال العمري: مواقف السيارات مخصصة فقط للعاملين وهي كافية، إذ أن هناك فسحة مستملكة من الوقف السني قريبة من جهة الجامع الجنوبية ستُبنى على نفقة الوقف أو تستثمر لتكون موقف سيارات متعدد الطوابق.
وعن الأبنية المضافة قال العمري إن التصميم الذي اختارته لجنة التحكيم موفق بطريقة تعامله مع المباني المضافة التي اشترطتها المسابقة بإضافة ثلاثة معالم جديدة إلى المشهد الثقافي للموصل متمثلة بإعادة إحياء المدرسة النورية المندثرة التي سبق أن بنيت في الموقع عام568 هجري، والمعهد العالي للعمارة والفنون الإسلامية، والقاعة المتعددة الأغراض، وذلك يلبي المتطلبات الوظيفية والمساحية واستحضار مبدأ الفناء التقليدي الشائع في العمارة الموصلية بالانفتاح على الداخل والانغلاق على الخارج في الحل التصميمي ووقوع الفتحات على الفناءات الداخلية كافة، وهو ما يلبي احترام خصوصية المساكن المطلة على الزقاق ويحترم ساكنيها بعدم وجود فتحات في المبنى التعليمي تطل على المساكن بل تطل على تلك الفناءات.
رئيسة لجنة تحكيم المسابقة المهندسة المعمارية (ريا العاني)، وهي خريجة جامعة بغداد وحاصلة على شهادة الماجستير في العمارة الإسلامية قالت لـ”الشبكة”: حين أُبلغت بتولي رئاسة لجنة تحكيم المسابقة شعرت بالمسؤولية تجاه بلدي ومدينة الموصل وحرصت كل الحرص على أن أكون مهنية وشديدة في التدقيق ليستعيد العالم شيئاً من إرثه الإنساني الحضاري، فالحدباء هي رمز إنساني حضاري عالمي قبل أن تكون عراقية.
وأوضحت العاني: كنا نركز على كل التفاصيل المقدمة، علماً أن التصاميم المقدمة كانت تحمل (كودات) ولا نعرف هوية صانعيها، وكنا نطيل النظر في كل تصميم مقدم قبل إبعاده كي لا نغبن أحداً حقه، وحين جرى التصويت على التصاميم لم نكن نعرف هوية مصمميها.
وأكدت أن منظمة اليونسكو المنظمة للمسابقة تتميز بالاحترافية العالية بتطبيقها الصارم لشروط مسابقات الاتحاد العالمي للمعماريينUIA وحسن تنظيم المسابقة المعمارية ولم ألمس أي تدخل أو ضغوط، وكانت المشاركات كافة مشفرة لا تعرف لجنة التحكيم هويات أصحابها.