هناك من يعتقد أن المال العام ملك للحكومة..هروب مصطبة من الرصيف!

381

إياد السعيد

ضمن خط سيري الراجل -شبه اليومي- في أحد شوارع بغداد، وحينما أصل إلى نهاية الشارع، أرتمي جالساً من التعب على (مصطبة) حديدية مثبتة على الرصيف الجميل، وهي من أملاك أمانة بغداد التي تؤثث بها الشوارع المختارة دون غيرها، وبمعايير خاصة بها لا تعلمها إلا الأمانة والراسخون في فهم عملها. قبل أيام، كعادتي بعد أن تعبت من السير والمخاطرة في الشارع لعدم وجود أثر لرصيف، وصلت إلى هدفي الروتيني، وإذا بـ (المصطبة) قد اختفت، ولم تتبق من أثرها في الأرض سوى أربع حفر تدلّ على أنها اقتُلِعتْ من مكانها بشكل تخريبي، ربما متعمد (الصورة)، التفت يميناً ويساراً باحثاً عنها، فربما تكون قد هربت لوحدها لأنها من ذوات الأربع !! أو لربما نقلتها جهة حكومية إلى مكان آخر في منطقة فقيرة، أو أن نقطة المرور، وربما سيطرة الشرطة المرابطة قد زحفتها لتكون نقطة لراحتهم، لكن لا أثر لها.
سلوك شاذ.. لكنه معتاد!
جلتُ بعيني مرة أخرى إلى مدى أبعد، بحثاً عن المصطبة، وإذا بضالتي هناك، لمحتها فاقتربت أكثر لأجد بائع السكائر يتربع عليها في مملكته الخاصة التي يسترزق منها (الصورة)!! لم أفاجأ أبداً.. لأن هذا السلوك، وإن كان شاذاً، إلا انه أصبح معتاداً وبسيطاً، إذا ما قورن بكَمّ وعدد التجاوزات الكبيرة على المال العام وضخامة السرقات التي يُعلن عنها وتملأ الإعلام وصفحات التواصل من قبل شخصيات عامة وأخرى متخفية تحت عناوين كبيرة ومحترمة .
نتائج الحروب والفساد
طرحت مشاهدتي على بعض المهتمين من شرائح مختلفة، وتساءلت عن السبب في هذا الانفلات والتجاوز على المال العام، فكانت إجابة الصحفية أسماء إبراهيم: “سؤالك أضعه تحت صنف السهل الممتنع، فعلى قدر موضوعيته، إلا أنه يرتبط بتاريخ طويل عريض من الحروب والمآسي والانكسارات التي عاشها المواطن العراقي، وكان لابد لها، نفسياً ومجتمعياً، من أن تؤثر سلباً عليه -وضع خطين تحت لابد- لأنه من غير الطبيعي أن نبقى طبيعيين وسط هذا الخراب.. لذلك أعتقد أنه لم يفقد المواطنة، لكنه يشعر بخسران حياته الإنسانية، ولم يعد يبالي بمعايير أخرى، لكن نفس الشخص، لو أنه عاش في بيئة أخرى، لوجدته غير ذلك، فالجرح كبير والفساد ابتلع كل شيء..”
أما الشاعر جواد الكعبي فيرجع السبب إلى : “انعدام الروح الوطنية وعدم الإيمان بالعراق وطناً، فالولاء بات للعشيرة والحزب أولاً، لذلك لا تجده يحرص على المال العام.”
من جانب آخر، تؤكد المذيعة الرائدة إيمان عبد المجيد على أن “التمرد والانتقام والإحساس بالخسارة، كلها مرتبطة بانعدام روح المواطنة، التي تنبع من التربية التي يغرسها الأهل كنبتة في البيت، ثم التعليم بنهج صحيح.”
المهندس ضياء عبد علي عزا السبب إلى أن “المتجاوز على المال يحفزه سببان، أو أحدهما، فإما لضعف السلطة أمامه وعدم محاسبته، أو أنه يفكر باستغلال الرصيف أو الشارع أو أي مرفق عام لكسب عيشه، ويعتبر ذلك منافسة مشروعة هو أحق بها.” بينما اختصر عمار إسماعيل، موظف حكومي، السبب المباشر بـ”عدم وجود رادع قوي، وضعف السلطة التي تحاسب، فأصبح كل شيء مباحاً.”
مال الحكومة!
توسعت الآراء أكثر لتربط بين الوضع السياسي العام في البلد والسلوك المجتمعي الذي هو بالأساس مرآة للنظام العام، لكن الرأي الذي اختصر الموضوع كله كان للحاج أبي علاء (بقال في السوق)، وهو يصف الوضع العام: “الوضع بائس جداً من حيث الحفاظ على المال العام الذي هو أمانة عند المواطن، ليكون ملكاً لأبنائنا وأحفادنا، لكن للأسف، فبدلاً من أن نحافظ عليه وننميه ونوسعه، صرنا نسرقه ونستولي عليه، كالأراضي والمتنزهات والدوائر المهملة، وحتى الدور وسيارات الدولة، انظر خلفك، هل تعلم ماذا كان وراء هذا السياج (الجينكو)؟ إنه موقف باصات مصلحة نقل الركاب استولى عليه أحدهم وضمه إلى المقهى والمطعم لشواء السمك “!!
فعلاً.. هناك تجاوزات غريبة ومفضوحة، لكن لا يوجد من يحاسب، فحملة أمانة بغداد -قبل سنتين- لإزالة التجاوزات على الأرصفة والشوارع، تطرق إليها د. عامر البياتي (طبيب جراح): “فرحنا كثيراً بحملة الأمانة في إزالة التجاوزات على طول هذا الشارع وتهديم ما بناه المتجاوزون بالبلوك والجينكو، لكن المضحك في الأمر هو أن هؤلاء أعادوا بناء هذه التجاوزات الآن بالإسمنت المسلح وبأرقى المواد الإنشائية من حيث التصميم والرصانة والمساحات المستغلة، وكأنها فرصة مجانية وفرتها الأمانة بهدم القديم ليعيدوا بناءه من جديد، فكان الهدم ورفع الأنقاض –مجاناً- هدية من الحكومة لهم، مكافأة على تجاوزهم، لذلك فقد أثبتوا أنهم أقوى من الحكومة بصراحة، وهذا درس ندم عليه من لم يتجاوز سابقاً “!!!
بالرغم من أن حديث هذا الطبيب صحيح ومقنع، لكنه مؤلم، فتخيل معي، عزيزي القارئ، كيف سيكون رد فعل المسؤول في الأمانة عندما يقرأ هذا الكلام !! هل سيكرر محاولة هدم وإزالة هذه التجاوزات أم …… ؟
إنه الفرق بين الشجاعة والـ… وبين رجل الدولة و… وبين الوطني والـ…، وعليك أن تختار عزيزي المسؤول من بين هذه الصفات.