يوم أولمت النجف “المسكوف” لوفد الطائفة اليهودية
كريم راهي/
قبل سبعة عقود بالضبط، وفي شتاء عام 1946، حينما نقلت (دار الإذاعة العراقية) عبر الأثير، نبأ وفاة المجتهد الأكبر (أبو الحسن الأصفهاني)، علت صيحات الجزع في أرجاء البلاد كافة، وصارت الوفود تتسابق للفوز بمكان في تشييع جنازته، من الكاظمية، حيث أسلم الروح، إلى النجف، مثواه الأخير.
وبرغم معارضة علماء الدين آنذاك قضية حمله على الرؤوس لهذه المسافة الطويلة التي قدرت بمسيرة خمسة أيّام، إلاّ أنّ جموع المشيّعين التي أصرت على ذلك، اكتفت بمسيرة سبع ساعات إلى حيث ينتظر موكب السيارات قرب جسر (الخرّ). وقد قدّر عدد المشيّعين بربع مليون (جَنّاز) من مختلف الطبقات.
وفي النجف، حيث حُملت جنازته من مرقد (كميل) في (الحنّانة) إلى صحن المرقد العلويّ، كانت هنالك جموع غفيرة ممّن بادروا لحملها على الرؤوس أيضاً، لمسيرة ثلاث ساعات، لتبدأ بعدها مراسيم الدفن ومن ثمّ إقامة مجلس الفاتحة الكبير في الجامع الهندي الشهير بالنجف، والعشرات من المجالس في أنحاء أخرى من المدينة.
وقد اهتمت الصحافة النجفية بهذا (المصاب الجلل) آنذاك، وصارت تنشر بالتفصيل، كلّ ما يحدث من مجريات الأمور فيما يخصّ تلك الفاجعة، من وفود قدمت للتأبين، أبرزها وفد الحكومة الإيرانية، ووفد علماء بغداد برئاسة كبار مشايخ السنّة، وبرقيات مواساة ذكرت جريدة (العدل الإسلامي) أنها وردت (أغلب الطوائف من مسلمين ومسيحيين وإسرئيليين وصابئة في العراق وخارجه)، بضمنها ما حملت تواقيع رئيس الطائفة الصابئية الشيخ دخيل الشيخ عيدان، وصابئة الشطرة والعمارة، والطوائف الإسرائيلية في قلعة صالح والعمارة، وأكراد طوز خورماتو وسواهم ردّ عليها جميعاً (الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء)، ومواكب عزائية من شتى أنحاء العراق، وندوات خطابية ومهرجانات شعريّة، وما إلى ذلك مما يضيق المجال بتفصيله.
وكان من أبرز الوفود المشاركة في حفل التأبين وفد الطائفة (الإسرائيليّة) الكبير الذي قدم من بغداد برئاسة الباشي حاخام (ساسون خضّوري) زعيم الطائفة ومرشدها. لكن وفداً آخر من هذه الطائفة كان قد سبقه بالقدوم من (الحلّة) إلى مجلس الفاتحة، فيما كان وفد يهود (الديوانيّة) قد سبق الجميع ورافق الجنازة من المسيب فكربلاء، فالنجف.
يقول (عزّت ساسون معلّم) في مذكراته المكتوبة بالعربيّة، والتي حملت عنوان (على ضفاف الفرات)، في ترجمته للحاخام الأكبر (خضوري) أنه جاء بأعضاء وفده من الحاخامات والزعماء الروحيين لتقديم التعازي لحوزة النجف الدينيّة بعد أن لبث ليلة عند آل خلاصجي في (الشاميّة) حيث يقيم صاحب المذكرات، مفصّلاً تلك الزيارة بما لم تذكره صحف النجف التي أتت على كل تفاصيلها:
“وفي تلك الزيارة دعا علماء النجف أفراد البعثة اليهودية لزيارة معالم المدينة وشوارعها وأسواقها، كما شهد أعضاء البعثة سراديب المدينة (سرداب كلمة فارسية تعني دهليز). وكانت سراديب هذه المدينة كبيرة وطويلة تستعمل للاجتماعات والدراسات وسائر الغايات. ذلك إن مدينة النجف تحفّ الصحراء العراقية الغربية وكان جوها حاراً جافاً. وهذه الدهاليز كانت مفراً مريحاً من وهج ذلك الحر”.
يقول محّرر أخبار مجلّة (الغري) النجفيّة أن هذا الوفد قوبل يومها من النجفيين بالحفاوة والتكريم، واستُقبل أعضاؤه استقبالاً لائقاً بمنزلتهم الدينيّة. وقد توجّهوا حال وصولهم إلى دار الفقيد، ولما أن استقرّ بهم المقام، تلي من قبل كبيرهم الدعاء باللغة العبريّة. كما ألقى سكرتير إدارة الطائفة (سليم خبّاز) كلمة باسم الوفد، شكر فيها للنجفيين شعورهم واستقبالهم وحسن وفادتهم. بينما نشرت مجلّة (البيان) المحليّة، النصّ الكامل لتلك الكلمة التي قدّم فيها السكرتير (خبّاز) للنجفيين شكر أفراد طائفته الذين وصفهم بـ(أبناء عمومتكم ومواطنوكم).
ثم يستمرّ كاتب المقال بذكر تفاصيل زيارة أعضاء الوفد، الذي كان السيّد (مرزة القزويني) قد رافقهم حين مرورهم بمدينته، لآية الله (الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء) في مدرسته العلميّة، ومتحف المخطوطات الكبير فيها. ويضيف محرر جريدة (الهاتف) النجفيّة، أنهم زاروا سماحة الفيلسوف (الزنجاني) أيضاً.
يقول كاتب المذكرات، عن حفل الإستقبال هذا:
“وفي الاحتفال قرأ الحاخام ساسون خضوري زبوراً من كتاب المزامير باللغة العبرية لروح الفقيد. فوقف جميع الحاضرين خشوعاً وإجلالاً. ثم قرأ سكرتيره خطبة باللغة العربية أعجب بها الحضور وردد هتافات مثل “أحسنت” و”بارك الله فيك”، فنشرت هذه الخطبة في المجلة الدينية للنجف الأشرف مع صورة السكرتير الخطيب. وأرسلت إدارة المجلة عشرين نسخة من هذا العدد الى إدارة الطائفة في بغداد، وهكذا تقوّت أواصر الصداقة والأخوة مع هذه الطائفة التي قابلت هذا الاستقبال الحافل بإرسال الهدايا والتبرعات المختلفة الى النجف”.
وتذكر مجلّة (البيان) أنّه بعد مقاربة الزيارة على الإنتهاء، دُعي الضيوف إلى استراحة في منزل الوجيه (عبد الرزاق شمسة) حيث اخذوا استقرارهم بعض الوقت، وتناولوا الشاي والفواكه، ثمّ جيء بهم إلى منزل (معالي الحاج محسن شلاش)، حيث أعّد لهم الغداء. وهذا ما تشير إليه مجلّة (الهاتف) أيضاً، في عددها المخصص للحدث، بالقول: “ثم قصد دار معالي الحاج عبد المحسن شلاش، حيث أعّدت ضيافته هناك”.
لكن كل من كتب عن تلك الزيارة، لم يذهب إلى وصف طبيعة هذه الضيافة وهذا الغداء، إلا صاحب كتاب المذكّرات المعنون (على ضفاف الفرات)، اليهودي العراقيّ الذي اجتزأنا حفناً من نصوصه، والذي عرفت من بعض ما جاء في كتابه عن طبيعة اللحوم التي يباح تناولها في الديانة اليهودية، وهي لحوم (الكاشير) المحللة “لمواش أو دواجن ذُبحت على الطريقة اليهوديّة من قبل ذبّاح مجاز يحمل وثيقة تشهد على تعلّمه وإتقانه هذه الطريقة في دورة خاصّة ببغداد”. كما يذكر في حقل آخر.
ويبدو أن مضيّفي الوفد اليهودي من علماء ووجهاء النجف كانوا على علم تام بهذه المحظورات، لذا وقعوا في حيرة من أمرهم بصدد ما يتوجب عليهم تقديمه في وليمة (شلاش) تلك لكي يتناوله الجميع، حتّى تفتّقت العقول التوفيقيّة عن حلّ مرضٍ للطرفين.. يأتي على ذكره (عزّت ساسون خضّوري) بعبارته التي وردت بشكل عرضي في موضوع زيارة وفد مشايخه للعزاء:
“وفي النجف الأشرف استقبل علماء الشيعة هذه البعثة اليهودية أجل استقبال، حتى أنّ علماء البلد، وقد احتاروا في أمر اعداد الطعام للزائرين اليهود، علماً منهم أن اليهود لا يأكلون بعض ضروب الطعام. فاستقر الرأي في إعداد السمك المسكوف، وهو أفخر أنواع السمك المشوي النهري”!