60عاما لم تستطع محو ذكرياتهم عنها يهود العراق الحنين الى بغداد
آيه منصور/
أكثر من ستين عاما مرت، لم تستطع محو ذكرياتهم عن شوارع بغداد وحاراتها ومقاهيها وبيوتها، التي عاشوا فيها أطفالا وشبابا وشيوخا، قرونا عدة، فحملوها معهم مثل زوادة، إينما ارتحلوا وحلوا، ظلوا يعودون إليها في أفراحهم واتراحهم مستدعين الأغاني الشعبية التي كانوا من أبرز كتابها وملحنيها، فهي حاضرة دائما في حفلاتهم العائلية وأعراسهم مثلها مثل الأكلات البغدادية والأزياء والحكايات.
واليوم حيثما سرت في بغداد وتحديدا في شارع الرشيد مرورا نحو ابي نؤاس، ستقابلك تلكم المنازل الوحيدة بفراغها التي تعود لهم. أنهم ابناء الطائفة اليهودية الذين كانوا يوما ما هنا. لكنهم فروا أو هجروا لبلدان أخرى بعيدة، بعد ان تعرضوا لمضايقات عديدة وهائلة انتهت باسقاط الجنسية العراقية عنهم، في مؤامرة صهيونيةـ بريطانية خضعت لها الحكومات في بغداد، منتصف القرن الماضي، لايزال بعض خيوطها غامضا أو مخفيا.
ومع ذلك ظل اليهود العراقيون متمسكين بحب العراق، ويحنون الى ذكرياتهم وجذورهم العراقية.
«الشبكة « حاورت عددا منهم بعد ان فتحوا لها قلوبهم.
اردت تخطي الحدود الافتراضية
الصحفية ليندا عبد العزيز. خرجت من العراق في سن العشرين عام 1970 مع اخوتها لكن والدها المحامي يعقوب عبد العزيز فضل البقاء برغم جميع المشكلات التي كان عليه ان يواجهها ويعاني منها، بدءا بفراق أولاده حتى مطاردة السلطات له. بعدها اختفى تماما ولم يعرف عنه شيء.
ليندا حاولت الادلاء بصوتها كعراقية في انتخابات عام 2010 في عمان لكن تم منعها بصورة سيئة. انتجت فيلما بعنوان «ظل في بغداد» تتحدث فيه عن بحثها عن والدها بمساعدة شخص في العراق. امنيات وامنيات معلقة في رقبتها مثل قلادة حتى الآن اذ تقول:
لم اكن افكر يوما ان العراق سيصبح خاليا من اليهود تماما. وأننا سنبقي نتمنى رؤيته ولو لثوان هكذا. بدايةً حاولت محو العراق من مخيلتي، لكثرة الغضب والألم من مصير والدي وعائلتي ومستقبلي اذ كنت ادرس واملك المئات من الأحلام، غير ان الزمن هو المداوي للجراح وهذه ليست كليشة! بعد ان انفتح الجرح القديم وتعاطيت معه من بعيد على الأغلب، عاد الود للعراق ليطرق بابي، بعد ان ابتعدت عن مأساتي الشخصية ورأيت مأساة الشعب العراقي برمته والتي لم تنته بعد. امسيت جزءا من المنكوبين في العراق وهذه اسرة مترامية الأطراف وللأسف!
شيم العراق
وترى ليندا ان الوثائق والجوازات قد تعكس جانبا من ظروف الإنسان والروح موجودة حتما في عدة اماكن تتغير حسب الظروف تارة تتنازع وتارة تتواءم, لذا فان عراقيتها لن تتركها يوما. تضيف قائلة بعد سؤالي عن فكرة أولادها عن العراق بالقول:
اولادي يعيشون العراق في البيت من خلال الأكلات العراقية والموسيقى العراقية التي استمع اليها والحفلات الموسيقية التي كنت اقيمها في بيتي وتعرفوا على اللغة اليهودية وتاريخ العائلة وكتبوا عن هذه الأمور وهم في المدارس الإبتدائية فقد كنت سفيرة للعراق في إسرائيل اذ اتطوع لسرد رواية هروبي وما سبقها من حياة جميلة ومريحة والعلاقات التي ربطتنا بالجيران والتعددية التي كانت من شيم العراق.
وعند محاولتي الحديث عن فيلمها. لمحت برأسي صورة لها وهي تحاول الانتخاب ومنعها في المكان. واذا ما ارادت قطع الحدود بينها وبين العراق فأجابت:
عندما توجهت الى صندوق الإقتراع لم اكن اتوقع مثل هذه المفاجأة.
اردت اجتياز الحدود الإفتراضية لأن الحدود الجغرافية مغلقة بوجهي وانا اؤمن بأن السلام والتواصل بين الشعوب موجودان.حتى أني تأكدت، في صباح اليوم نفسه، من الأمور المطلوبة التي على الناخب ان يبرزها لكن للأسف منعت من الإدلاء بصوتي.
وحول فيلمها السينمائي اكدت:
ان الفكرة كانت تراودني سنوات عديدة قبل التوجه للإدلاء بصوتي وقمت بتحريات وتحقيقات لدى العراقيين الموجودين في لندن بضمنهم خالد عيسى طه الذي تتلمذ عند ابي وكان يسميه محامي جنطة!
وتوضح ليندا في رسالتها التي تنضح تفاؤلا بالقول:
انا احتضن ثقافات متعددة فيمكن ان اجد نفسي في كل مكان ويمكن احيانا في مكان واحد من كل هذه الأماكن واعجبني ما رددته المخرجة ميسون البابجي في فيلمها الأول بعد عودتها الى العراق، عندما وصفت هويتها انها كالجسر ساعة تقترب من الجانب البريطاني وساعة من الجانب العراقي وهكذا أنا.
العلاقات المختلفة
أما تاجر الجلود عماد ليفي، الذي غادر العراق عام 2010 يتحدث عن والده الذي رفض الخروج مطلقا. ما اضطره للبقاء معه برغم جميع المخاطر التي كانت تواجهه:
لرفض والدي الخروج بقيت معه. كان شديد التمسك ببلاده. كما ان عملي كان هنا. برغم ان المخابرات العراقية في زمن صدام لم تسمح لي بالسفر مع المراقبة الشديدة لنشاطي في الطائفة اليهودية. اذ كان عدد المتبقين من اليهود العراقيين قلة قليلة جدا ولا يتجاوزون المئتين في ثمانينات القرن الماضي. لذا لم استطع الحصول حتى على جواز.
ويستطرد عماد في ذكرياته قائلا:
كانت العلاقات الاجتماعية مختلفة عن اليوم. الطبقة المثقفة هي البارزة. لكن بعد مجيء صدام. بدأت تقفز لنا طبقة الضباط والحروب. وهي التي كرست القلق في أوساط المجتمع العراقي، ما جعلته اكثر تقيدا وتحفظا عما كان عليه في السابق. لذا ان اغلب اليهود الذين تمسكوا ببقائهم في العراق كانوا يرتبطون بتلك الطبقة، ظنا منهم انها ستظل باقية.
يذكر ان والد عماد تمكن من الخروج عام 2003 لكن عماد ولعدم امتلاكه جواز سفر ولكثرة المعوقات والعقبات لم يستطع اصداره حتى عام 2010 عاش خلالها مغامرات هائلة بسبب «ديانته»:
كنت اشعر بمسؤولية عن كل من تبقى من طائفتي. لكن حتى القبور اليهودية لم تسلم. فقد قام احدهم بتهديم اكثر من 356 قبرا من مقبرة اليهود فحاولت ترميمها واعادتها لكن من دون اسماء.
ويذكر عماد – بخيبة- محاولات طمر الوجود اليهودي في العراق بشتى الطرق كان آخرها كما يقول هو هدم منزل اول وزير للمالية العراقية حسقيل ساسون وغيرها من الأمور.
الاستاذ رفايل الذي خرج من العراق في تسعينات القرن الماضي ليعيش عشرين سنة في هولندا وبعدها بست سنوات في انكلترا مع المرور على اسرائيل بفترات متباعدة من أجل زيارات الأقارب والاصدقاء يخبرني:
لم اسافر الى اسرائيل وذلك لئلا تقطع اخبار من تركناهم في داخل العراق اذ ان الاتصال كان منقطعا تماما هناك.