أدباء داهمهم الموت الإبداعي

1٬184

رولا حسن/

إذا كان قدر البشر العاديين أن يواجهوا بمرارة التحدي الذي يفرضه الموت على كل منهم، فإن الشعراء والمبدعين بوجه عام يواجهون تحديين اثنين في وقت واحد: الموت الجسدي والموت الإبداعي.قد يكون الموت الأول هو الأكثر ضراوة بالنسبة إلى سائر الناس باعتباره يضع حداً للحضور الإنساني بأكمله، ولكن التوقف عن الكتابة والعطاء الإبداعي بالنسبة للمبدع لا يقل إيلاماً عن توقف الحياة نفسها، لا بل أنه من بعض وجوهه الأكثر صعوبة والأكثر مدعاة لليأس والرعب، فالموت يأتي دفعة واحدة يحل بعدها السكون المطبق والعدم، إنه السكينة التي لا يرافقها ألم ولا يصطحبها توتر وعذابات، في حين أن الألم الذي يصحب العقم الإبداعي يدفع صاحبه إلى الشعور بالاضمحلال والموت وفقدان الجدوى إضافة إلى شعور بالسخط والتبرم والعدوانية المفرطة.

عجز

إن الكاتب الذي يكفّ عن الكتابة يشعر فجأة بأنه فقد سلاحه الأمضى في وجه العجز والموت، فالكتابة في جوهرها تحايل على الموت، إنها نوع من اللقاح الذي يحصّن الروح ضد جرثومة الزوال ويمنح الجسد مناعة أقوى في وجه الرياح العاتية للغياب والتلاشي، وحين يفقدها الكاتب يفقد معها إحساسه بالثقة والتوازن بقدر ما يفقد جوهر وجوده بالذات.

إن وضعه من هذه الزاوية أكثر مأساوية وخطورة من وضع الإنسان العادي الذي يكيف نفسه في الأصل مع فكرة الموت ويتقبل الحقائق الكونية الثابتة برضى واستسلام كاملين، في حين أن الكاتب المهدد بالأصل بالمخاوف والشكوك يجد فجأة أن حصانته المتوهمة قد انتزعت منه وأنه لم يعد يملك أي امتياز في مواجهة مصيره العاصف وغربته الموحشة.

لقد عبّر فيلم “اللمعان” الذي قام ببطولته جاك نيكلسون في سبعينات القرن الماضي عن الهاوية التي يمكن أن يصل إليها الكاتب الذي تخونه الكتابة، حيث يصبح بطل الفيلم شيئاً فشيئاً كائناً مريضاً ومنفصماً ومسكوناً بالشياطين وينتهي به الأمر إلى الهجوم بالفأس على زوجته وطفله الوحيد اللذين نجيا بأعجوبة من جحيم عدوانه.

انتحار حاوي

وإذا كان التوقف عن الكتابة ليس السبب الوحيد لانتحار خليل حاوي في ثمانينات القرن الماضي إلا أنه كان أحد الأسباب الرئيسة التي أوقفت مشاعر الانبعاث القومي المجهض. فحاوي الذي أعطى في قصيدته الرائدة “لعازر1962” أحد أجمل نماذج الحداثة الشعرية العربية وجد نفسه بعد سنتين من القصيدة تلك شبيهاً ببئر فارغة لا تعول فيها سوى رياح الخرس، وحين أصدر في مطلع السبعينات مجموعتيه الأخيرتين “الرعد الجريح” و”من جحيم الكوميديا” بدا شعره بلا عصب ولا حيوية وبدت عودته إلى الكتابة شبيهة بعودة لعازر الباردة من الموت، حتى إذا ما أضيفت إلى خيانة الشعر خيانات أخرى في حياة حاوي الذي لم يجد مخرجاً من عذاباته المبرحة سوى رصاصة وحيدة في صدغ الرأس.

سكتة أدبية

أما نجيب محفوظ، أحد أغزر الكتاب العرب وأكثرهم تنوعاً وثراءً، فإن الكتابة في المقابل لم تسلس له قيادها طوال الوقت بل تحولت فرساً حروناً شديدة التمنّع والمشاكسة، فهو يروي في حوار طويل مع جمال الغيطاني أنه أصيب بالسكتة الأدبية لمدة خمس سنوات كاملة في بداية الخمسينات. وقبل كتابته الثلاثية المشهورة بقليل يعترف محفوظ في تلك المقابلة بأنه بات شبيهاً بكهف مهجور وبأنه بات عاجزاً طوال سنوات عن كتابة سطر واحد، الأمر الذي أوقعه في الحيرة والقلق تجاه مستقبله الأدبي وهو في تبريره اللاحق لما حدث يعتبر أن الإنجازات العظيمة لثورة الضباط الأحرار في مطلع الخمسينات بدت كأنها تجيب عن كل الأسئلة التي يمكن أن تطرحها رواياته أو كأنها الحلم الذي تطرحه الكتابة على نفسها وقد تحول واقعاً ملموساً ومرئياً.

ماذا عن الشعراء؟

وقد تكون المشكلة لدى الشعراء أكثر ضراوة وهولاً مما هي عليه لدى الروائيين وغيرهم من المشتغلين بالكتابة، ذلك أن زمن الروائي لا يرتبط بحقبة بعينها من العمر بل هو يشتعل ويتوقد مع فترات النضج والتقدم في السن، فالرواية تتغذى من الذاكرة والسرد الاستعاري وهي تالياً تحتاج إلى الكثير من الخبرات والتجارب والعقود المتراكمة، لذا نجد أن أفضل ما ينتجه الروائيون في الغالب، عدا استثناءات قليلة، يتم بعد الأربعين وفي متوسط العمر وما يليه من مراحل، في حين أن الشعر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدورة الدم ونبض القلب وحرارتهما الداخلية وتوتر الجسد، إنه تعبير انفجاري متدفق وناري وهو يعتمد على النضارة والحيوية الجسديين إضافة إلى نضارة الروح وحماستها الداخلية.

ولأن الزمن الشعري زمن ناري بامتياز فهو ينقلب بسرعة رماداً شأنه شأن كل ما يشتعل، لهذا لن نحس بالغرابة حين نجد شاعراً كبيراً مثل رامبو يتوقف عن الكتابة في مطلع العشرينات أو شاعراً كخليل حاوي يصمت في أول أربعيناته، في حين أن الكثيرين ممن أصروا على المتابعة بمكابرة لافتة لم يفعلوا شيئاً يذكر بعد منتصف العمر سوى تكرار ما كتبوه من قبل بشكل رتيب وباهت.

وإذا كان بعض الشعراء، وهم قلائل، يزدادون توهجاً ونضجاً وحيوية مع الزمن فإن حال الكثرة الغالبة ليست كذلك على الإطلاق.