أين يتقاطع أدب الداخل والخارج؟
كاظم غيلان /
ما من بلد سجل امتيازاً بهجرة مثقفية كالعراق، فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود؛ توالت موجات من “الهجيج” التي ابتدأت في نهاية سبعينات القرن الماضي نتيجة سياسة القمع المتوحش الذي مارسته سلطة البعث. وبقدر ما تحقق من نوايا السلطة من أمنيات لطرد عقول العراق المبدعة الخلاقة، راحت هذه العقول ترد على النوايا السيئة بنتاجها الإبداعي الجمالي الذي سجل لوائح الاتهام والإدانة لذلك النظام.
لم يكن المراد من تلك الهجرة استكشاف عوالم قارات متباعدة، إنما كانت المنافي بكل ما فيها من قسوة وشظف عيش وفاقة وبعد عن الأهل والأحبة، حتى ضاقت الحياة بإعداد منهم ورحلوا عنها ودفنوا هناك، ولنا في قبور رموز تلك التجربة ما يكفينا من دليل ممثلة بــ”الجواهري، مصطفى جمال الدين، هادي العلوي، شمران الياسري، البياتي … والخ”.
فهل كان ذلك الكم من النتاج الهائل أدب رحلات كما نعرف أم أدب منفى أم أدب (الخارج) الذي أطلقته المؤسسة الإعلامية لذلك النظام في محاوبة للنيل منه؟
للوقوف على تصنيف ذلك الأدب أو تلك الثقافة التي عبرت حدود بلادها استطلعت (الشبكة) آراء عينة من أدباء العراق الذين لم يزالوا في تلك المنافي.
وحدة الجذور
عبد الله صخي الروائي العراقي المقيم في لندن والذي أنجز ثلاثيته الشهيرة هناك(خلف السدة، دروب الفقدان، اللاجيء العراقي) التي شهد اليوم الأول في افتتاح معرض الكتاب السنوي بأربيل قبل أيام حفل توقيعها قال:
“لا أميل إلى الفصل القاطع بين أدب الداخل وأدب الخارج، خاصة بعد التغيير السياسي في العراق العام 2003 عندما عاد المنفيون إلى الوطن بعد غياب دام عقوداً، وانخرطوا في محاولات الانسجام في خصائصه الجديدة. صحيح كانت هناك تجربتان، غير أن إحداهما تتصل بالأخرى بصرف النظر عن الموضوعات التي تطرحانها أو مكان انطلاقها. إنهما تتماهيان وتتجاوران على امتداد العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية. لا أحسب أن رواية (آخر الملائكة) لفاضل العزاوي أو مجموعة مثل ( ليل يصدح فيه الطير) لإبراهيم أحمد أو (حفيد أمرؤ القيس) لسعدي يوسف أو (النجف الذاكرة والمدينة) لزهير الجزائري أو ديوان شعر لفاضل السلطاني، أو أشعار لمظفر النواب وغيرهم الكثير، لا أحسب أنها تندرج ضمن (أدب الخارج) طالما هي تستلهم روح العراق الصافية أو المضطربة، التاريخ أو الشخوص، وطالما هي تتناول التجربة العراقية بكلّ أوصافها وتجلياتها. أعتقد أننا بذلك التقسيم (أدب الداخل والخارج) نظلم التجربة الأدبية والفنية للمنفيين، وبالتالي نظلم سيرة الأدب العراقي برمته، فثمة تجربة واحدة أدبية وغنائية وتشكيلية ونقدية تتصل بالجذور وتشتبك معها في النسيج، وتستمد حياتها من الأرض العراقية وإن اختلفت التوجهات والأساليب والموضوعات.
فلك السياسة
الشاعر والكاتب عبد الكريم هداد المقيم في السويد وله العديد من الإصدارات والبحوث التي أبرزها (مدخل لدراسة الشعر الشعبي العراقي) وهو رصد لجانب من ثقافة العنف في العراق قال:
أنا لست مع جميع هذه المصطلحات وغيرها من المسميات الضخمة في صداها الإعلامي تحديداً، وهي مصطلحات غير معبرة عن تجربة أدبية بتاتاً. بل هي منوطة من قبل صانعيها نحو جر النسيج الثقافي إلى متاهات ضياع سياسي وصناعة جزر متناثرة في بحر الفجيعة العراقية. وعليه فهي ليست معنية في حمل مكنونات دلالاتها في نبش مسارات البناء الفني للعمل الأدبي. إن النتاج الأدبي العراقي مازال يسير في حدود جغرافية محدودة، ولم تبتعد عن المعترك الداخل للحياة العراقية، وبالرغم من كتابته على طاولة تحت شموس قارات بعيدة. إن الكثيرين ممن استوطنوا بلداناً أوروبية مازالوا يفكرون بلغتنا العربية ذات التكوينات العراقية الأولى بما تحمله من دلالات واضحة ومسمياتها حضارية وفكرية لاتشوبها شائبة، كما لم أجد لحد هذه اللحظة أي كتابة أدبية لمبدع عراقي ما، تناقش مثلاً مشكلة اجتماعية سويدية بحتة، بقدر ماهي كتابة لمشكلة عراقية فوق أرض أجنبية، حتى أولئك الذين تبرز لهم بين حين وآخر أخبار أو تهليلات من قبل دور النشر العالمية، فهم وإن كتبوا بلغة أخرى لكنهم ظلوا يناقشون أفكاراً عراقية صرفة وكأن عمله الأدبي ترجمة لاغير، من هنا يمكن القول أن أدب المنفى أو أدب الخارج أو المهجر لم يكن إلا مشابهاً للموضوعات العراقية المثارة داخلياً وتحت عناوين مشتركة وعامة، لكن الفرق هو في مساحة الحرية الممنوحة لهذا الكاتب أو ذاك. وبهذا أجزم أن الكاتب في داخل العراق ما برح محاصراً بشروط سياسية واجتماعية ودينية. لكنني ما زلت أستخدم مصطلح أدب المنفى جغرافياً فقط على حساب تسمية الغربة من ناحية الموقف السياسي الواضح، لهذا أوضح أن الأدب العراقي سواء كتب في خاج البلاد أم داخلها يبقى أدباً عراقياً خالصاً ضمن مسارات عوالم التجربة الأدبية ومعبراً عن محاكاة الحياة العراقية اليومية، لهذا كانت روايات غائب طعمة فرمان وقصائد سعدي يوسف ومظفر النواب أو أغاني فؤاد سالم عراقية صرفة الشكل والمضمون. من هنا لم أجد في أيّ من المسميات المذكورة تعبيراً حقيقياً عن تجربة الأدب، ولذا لا أميل لأي مصطلح مما جاء ذكره، ذلك لكونها مصطلحات تدور في فلك السياسة البحتة، والكثير منها يستخدم فقط لدلالات سياسية.
تشويه ثقافي
للشاعر عواد ناصر المقيم في لندن وجهة نظر، وهو الذي أصدر معظم مجاميعه الشعرية في المنفى ولعل من أبرزها (أحاديث المارة) الذي ما إن تقرأ قصائده حتى تحس بأنها مكتوبة داخل العراق ويلخص رأيه بالقول:
“لم يكن المنفى خياراً شخصياً للمثقف بل هو أضطرار مثل آخر العلاج الكيّ. فقد شهدت بلدان العالم عبر تاريخها هجرات مثقفين حوصروا فيها إثر الحروب أو استبداد الأنظمة. المنفى حقيقة واقعة كما الوطن. إذا كانت ثمة سمات فنية مختلفة بين أدب الداخل أو الخارج فمردّها إلى المناخ الثقافي والسياسي والسيكولوجي الذي يعيشه الكاتب. كلّ من الوطن والمنفى ينتج ثقافة تحمل طباع المكان وثقافته.
ثمة أختلاف؟ نعم لكن الجذر الإبداعي واحد عندما يتمثل المثقف شروط الإبداع الأساسية ارتباطاً بمفهوم الحرية والابتكار والعناية بالإنسان وهذا ماجعل الثقافة الإنسانية جامعة لمتلقيها مهما اختلف المكان والزمان.
الثقافات تتجاور وتتلاقى عبر العالم الشاسع وتتغذى من بعضها البعض، فكيف بثقافة الوطن الواحد التي عانت من البطش والإقصاء وحملت الأحلام وقاومت السياط نفسها ونزفت الدم نفسه.
للأسف شاعت عبارة “الداخل والخارج” بهدف تشويه الثقافة المضادة للاستبداد وتسقيطها لأنها رفضت ثقافة الصمت والخنوع والموالاة.
المصطلح المسروق
الروائي علي عبد العال عاش هو الآخر حياة المنافي حتى استقر به المقام في السويد منتجاً العديد من الأعمال الروائية ولعل أبرزها “جمر عراقي على ثلج سويدي” قال:
“لم يعرف المثقف العراقي الهجرة الاختيارية إلا ما ندر لذلك لا يصحّ مصطلح (أدب المهجر) أما مصطلح أدب الداخل وأدب الخارج فهو مصطلح بعثي مسروق من التجربة الفلسطينية التي تختلف تمام الاختلاف عن التجربة السياسية العراقية وعناصرها ومكوناتها. إذ أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين هو العنصر الرئيس لهجرة الشعب الفلسطيني بينما نفي المثقف العراقي تم قسرياً من قبل حكومة عراقية دكتاتورية ذات طابع سياسي متخلف وعنصري. نحن أدباء المنفى القسري حتى يستقيم الوضع السياسي بالعراق بما يخدم المثقف ودوره في الحياة والمجتمع.
صناعة القطيعة
الشاعر صلاح حسن الذي غادر العراق في تسعينات القرن الماضي ليستقر الحال به في منفاه الهولندي ليومنا هذا أجاب قائلاً:
لا أريد أن أتحدث عما يسمى بأدب الداخل وأدب الخارج فهذه التسمية أصبحت بالية وذهبت مع الأشخاص الذين روجوا لها في ذلك الوقت، واستطاعت بالفعل أن تصنع ما يشبه القطيعة بين المثقفين العراقيين، لكن المؤسف أن هناك القليل من أشباه المثقفين مازالوا يثيرونها بين وقت وآخر.
بالنسبة لي تسمية أدب المنفى هي الأقرب لتصوري وعملي لأن نصف ما أنتجته من الكتب ظهر في فترة الدكتاتورية الفاشية ولم تصل هذه الكتب إلى القارئ العراقي لهذا فإن هذه الكتب أنتجت في المنفى الاضطراري وحتى بعد سقوط الدكتاتورية ما زلت أسمي الأدب الذي أكتبه أدب منفى لأن بعض الكتب التي انتهيت منها منعت من النشر لأسباب سياسية تافهة تحاول جر البلد إلى هاوية كبيرة. ومن يظن أن هناك حرية في العراق فليجرب أن يكتب مقالة صغيرة تتعلق باحد رموز العملية السياسية.