أيها المثقفون العاجزون.. ما الذي تبقى منكم؟
محمد غازي الأخرس/
يكتب عبد الملك نوري إلى صديقه فؤاد التكرلي عام 1951 معرباً عن اشمئزازه من حياته وعجزه عن إنجاز شيء جديد: “إنني أشعر باشمئزاز شديد من حياتي الروتينية السخيفة التي ليس فيها شيء مثير، شيء جديد يجعل الحياة مستساغة في نظري. الديون تزداد وتتراكم يوماً بعد يوم.. والحياة تفقد طعمها اللذيذ، فلا أجد إلا مرارة في نفسي.”
يضيف نوري في رسالة أخرى مؤرخة في 1952: “ليتني أستطيع أن أكمل قصة، حتى قصة فاشلة! لكني لم أعد أستطيع تركيز ذهني في أي موضوع.”
ثم يستدرك: “كلما ازداد عمري يوماً قلّت قابليتي للكفاح – الكفاح من أجل تحسين حياتي، تحسين أدوات تعبيري ووسائلي الفنية.”
تصح ظاهرة الركون إلى الصمت، والشعور الممض بالعجز عن مواصلة الإنجاز، على عدد كبير من المثقفين العراقيين من كافة الأجيال، ابتداءً من العشرينيات حتى يومنا هذا. دائماً يحدث الأمر؛ يبرز اسم أدبي أو نقدي، ويحلق في سماء الثقافة كالصاروخ. لكن بعد حين، يذوي ويركن إلى الصمت، يختفي بين طيات الأيام، فكأنه لم يكن ذلك المثقف المتحمس لقول ما يريد قوله.
في العشرية الثانية من القرن الماضي مثلاً، حدث أن برز عدد من الكتاب الشباب، ملتفين حول الأب أنستاس ماري الكرملي في مجلة (لغة العرب)، من أمثال إبراهيم حلمي وكاظم الدجيلي ومحمد أحمد الصراف وسواهم. ثم ما هي إلا سنوات قلائل حتى اختفوا متجهين كلّ إلى مجال.
في بداية العشرينيات أيضاً، برزت جماعة من المثقفين اليساريين قادهم حسين الرحال في حلقته الشهيرة التي أصدرت مجلة (الصحيفة)، وكان للرحال نشاط بارز في الكتابة إلى درجة أنه كان من المتوقع أن يكون منظراً ماركس ياً مؤثراً، إلا أنه سرعان ما توقف عن الكتابة بعد خمس مقالات فقط، واكتفى بنشاط اجتماعي، ثم وظيفي. ولئن امتلك صاحبنا مسرباً لتعويض توقفه عن الكتابة من خلال بث طاقته التجديدية في الوظيفة العامة، ومن ذلك مثلاً تدرجه في العمل الإذاعي من وظيفة ملاحظ عام 1943 إلى مدير للإذاعة لفترة قصيرة نهاية الأربعينيات، فإن البقية كانوا ينسحبون من ميادين الثقافة بسبب فتور هممهم وشعورهم بالعجز عن التواصل. قد يكون الفقر سبباً من الأسباب، لكنه لم يمنع زملاء لهم من المواصلة لعقود، كعبد المجيد لطفي مثلاً. يقول لطفي في مقالة رائعة عنوانها (النهاية) نشرها عام ١٩٤٩ في مجلة البيان، إنه “لا لوم على أديب حين يسكن في هذا البلد أن يصمت، ولقد كنت إلى حين مضى أنا نفسي بين اللائمين حتى صحوت، فإذا بي على ضلال مبين.” ثم يستمر بالبوح فيقول: “ليست هذه اعترافات أملاها اليأس في ساعة سخط، بل إنها لتقرير عميق لاذع ومؤلم معاً، وتصوير كئيب للحالة التي وصل إليها الأدب، فهذه بلاد جرداء مع عميق الأسف، بلاد لا تزدهر فيها بذرة الخير ولا تفوح فيها عطور النفوس الزكية.” الأديب -في رأيه- عاجز عن أن يفعل شيئاً وهو يرى أمته في قمة التفسخ والانحلال، بل إن “صوته الرخيم الحنون يضيع بين مئات الأصوات الناعقة العاوية.” ويختم مقالته الحزينة بالقول إنه الآن “لا يملك لنفسه من شيء سوى الرثاء، الرثاء بألوانه على تلك الحماقة الطويلة التي استمرت سنوات مثقلة بالهموم واستنزفت نصف العمر.” كان عبد المجيد لطفي قد كتب كلمته بعد أن اضطر إلى بيع أثاث بيته لتوفير المال لشراء دواء لمعالجته من المرض الذي ألم به.
إذا تركنا ذلك الأديب المستمر بالإنجاز والإنتاج رغم الفقر والمرض، واتجهنا إلى ما يذكره الدكتور عبد الإله، فسنراه يقول عن جيل لطفي من القصاصين الناشطين في الأربعينيات إنهم سرعان ما خبا نشاطهم، وبدأنا نسمع عن ركود واضح في الأدب. انصرف القاص أنور شاؤول إلى الأعمال التجارية، بعد أن أوقف مجلته (الحاصد)، التي أثرت في تاريخ القصة العراقية، بسبب خسائرها المادية، ولم يكتب سوى ثماني قصص، نشر بعضها في أوقات متباعدة في الصحف والمجلات قبل ضمها في مجموعته الثانية (في زحام المدينة). كذلك فعل عبد الحق فاضل الذي انصرف عن الحياة الأدبية بشكل تام بعد التحاقه بالسلك الدبلوماسي الخارجي وسفره الى خارج العراق عام 1940، بعد نشاط أدبي كبير متنوع. ويصح الأمر على يوسف متي وعبد الوهاب الأمين، الذي لم ينشر في هذه الفترة غير قصتين ضمهما إلى مجموعة (ذباب) عام 1952.
يشير عبد الإله أحمد إلى أن “ظاهرة صمت الأدباء تكاد تكون مستمرة عند جميع الأجيال.” وهي -بالنسبة له- تفسر ظاهرة انقطاع تلك الأجيال بعضها عن الآخر خلال فترة قصيرة من تاريخ العراق. يقول إنها أجيال لا يكاد يفصل بين أعمارها إلا عدد محدود من السنين، وعمر بعضها الأدبي مجرد عقد من السنوات. مع هذا، “لا تجد بين جيل وآخر من صلة كبيرة بحيث يتمم جيل لاحق ما أنجزه السابق، وإنما هي حلقات منفصل بعضها عن بعض، لا تقر السابقة بفضل من سبقها، وتستخف بها في أكثر الأحيان.”
ما يعنيه عبد الإله أحمد هو أن صمت الأدباء المفاجئ أحدث نوعاً من الانقطاع بين أبناء الأجيال المتتابعة، فلا تواصل ولا حوار ولا استكمال تجربة. من يطلع على أعداد مجلة (الكلمة) مثلاً في السبعينيات، أو (الطليعة الأدبية) في الثمانينيات، سيلاحظ ظهور عشرات الأسماء ثم اختفاءها بشكل تام. وفي المحصلة، لم يبق من تلك المئات من الأسماء سوى عشرين أو ثلاثين شيدوا لهم غرفاً في منزل الأدب العراقي. أما البقية، فذهبوا أدراج الرياح كما يعبر شاعر ستيني وهو بصدد استذكار أبناء جيله، إذ يقول إنه “لم يبق من عشرات الذين ظهروا معه سوى شعراء على عدد أصابع اليد الواحدة.” لعله بالغ، لكن من بقي فعلاً هم قلائل، أما الغالبية فقد عجزوا عن المواصلة وانعزلوا، ثم غابوا ولم تبق منهم سوى نتف تلمع من بعيد.
وللحديث تتمة..