الأدب المصري ينتصر للإمام الحسين ويرسّخه بطلاً في الضمير الشعبي

348

 رابعة الختام – الصورة: Tarekheikal

توله المصريون بحب أهل البيت منذ دخول الإسلام ورفرفة رايته التوحيدية بأرضهم، وشهدت الأحداث التاريخية في صدر الإسلام على تغلغل العقيدة المحمدية في الضمير الشعبي المصري. وتجلى ولههم بالإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في الخيال المصري الأدبي والتاريخي، فعني الفاطميون بالميادين العلمية والفكرية والأدبية والمناسبات الدينية التي تخص أهل البيت لاسيما يوم عاشوراء.
احتفى السرد التاريخي التراثي والأدبي بسيرة سيد شباب أهل الجنة واهتم كثير من الكتاب والأدباء المصريين بقضية استشهاد الحسين، وأُلفت في هذا الإطار كثير من الأعمال الكلاسيكية التاريخية والأدبية، أبرزها مسرحية “ثأر الله”(الحسين ثائراً، الحسين شهيداً) لعبدالرحمن الشرقاوي، ومؤلفات، “أبو الشهداء: الحسين بن علي” لعباس محمود العقاد، و”الفتنة الكبرى” لطه حسين بجزءيه الأول والثاني، و”أبناء الرسول في كربلاء” للكاتب خالد محمد خالد.
لا يتبنى الأدب المصري إنحيازا للحسين الراسخ في الضمير الشعبي كونه سيد شباب أهل الجنة، وهذا ليس استثنائياً في الأدبيات السنية التاريخية، فالحسين من منظور أهل السنة والجماعة، مذهب الغالبية الساحقة من المصريين المعاصرين، بطل وشهيد، وسيد شباب أهل الجنة بنص الحديث الصحيح، فهذا تبجيل مستحق.
أكثر الأعمال الأدبية المؤثرة، مسرحية “ثأر الله” بجزءيها “الحسين ثائراً” و”الحسين شهيداً” عام 1969، للكاتب المصري عبدالرحمن الشرقاوي وتتناول رفض الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، إعطاء البيعة ليزيد بن معاوية عام 60 هجرية، بعد وفاة أبيه معاوية بن أبي سفيان، لا ترغيباً ولا ترهيباً، الموقف الذي ولدت منه بطولة الحسين من رحم المأساة السياسية، فوقف موقفاً بطولياً ضد البيعة التي ستحول الخلافة الإسلامية لمُلك يتوارث. وتطور الرفض وصولاً للحظة استشهاد الحسين بأرض كربلاء بالعراق.
ببناء درامي متصاعد تناول “الشرقاوي” الحوارات وأحاديث النفس بين الحسين وآل البيت وبني أمية، إذ يقرر بعد منام رآه الوقوف في وجه طوفان الظلم.
كما تتناول ببيان بليغ طلب بني أمية البيعة من الحسين ورده عليهم شعراً:
الوليد .. نحن لا نطلب إلا كلمة ..
فلتقل بايعت واذهب بسلام لجموع الفقراء
فلتقلها واذهب يا ابن رسول الله حقناً للدماء
فلتقلها ما أيسرها إن هي إلا كلمة!
الحسين (منتفضاً): كبرت كلمة
وهل البيعة إلا كلمة
ما دين المرء سوى كلمة
ما شرف الله سوى كلمة
بن مروان (بغلظة): فقل الكلمة واذهب عنا ..
الحسين .. أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
ودخول النار على كلمة
وقضاء الله هو كلمة
الكلمة لو تعرف حرمة
زاد مزخور
الكلمة نور ..
وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم ..
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الله هو الكلمة.
ومما ساهم في شهرة شعر الشرقاوي تداوله بإلقاء فنانين وازنين وذيوعه بين العامة.
ويستنطق الشرقاوي روح الحسين الثائر، مخاطباً ضمير المسلمين الصامتين الغافلين عن قول الحق، أن يتذكره الجميع ويدركوا ثأره بعدم تخليهم عن طلب العدل والحق، ومما أنشد شعراً: فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين، بل فاذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال، وإذا شكا الفقراء واكتظت جيوب الأغنياء، عندما يفتي الجهول.
وأكد الكاتب والأديب عباس محمود العقاد في كتابه: إن الأوضاع في عهد يزيد بن معاوية بلغت حداً لا يعالجه إلا الاستشهاد، ويقول في هذا السياق إن الدعاة المستشهدين يخسرون حياتهم وحياة ذويهم، ولكنهم يمدون دعوتهم بأسباب البقاء، فتظفر بنهاية المطاف بالنجاح.
يزيد انتصر في معركة كربلاء وهزم الحسين عسكرياً، لكن دعوة الحسين ظلت باقية وقام عليها ملك العباسيين والفاطميين، والأيوبيين والمماليك حتى عهد العثمانيين.
فالشهادة حسب تعبير العقاد أقوى الخصوم الغالبين أبد الدهر، وأصبح الحسين بن علي الشهيد ابن الشهيد، رمزاً للصراع من أجل الحق والثبات على المبدأ رغم الخيانة، مثالاً ورمزاً للمسلمين والتاريخ الإنساني برمته.
الحسين ليس بطلاً يستأثر به الشيعة، بل بطل وشهيد عند أهل السنة والجماعة أيضاً، ورمز إنساني للثورة على الظلم والظالمين، ما أكسبه وضعية فكرية ووجدانية مؤثّرة.
ويذكر مؤرخون أن الحسين يوم عاشوراء بساحة كربلاء، أطلق أعظم وأروع وأندر خطاب في الحرية وتاريخ الإسلام وصدّقه بالشهادة، قائلاً: لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد.
لم يفرض على الحسين الشهادة بل طلبها وسعى إليها، رافضاً حياة الذل وصدح قائلاً: (ألا وإن الدَّعي ابن الدَّعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة ونفوس أبيّة من أن نُؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).
فرادة العقاد بمنهجية البحث والمعالجة، مستندة لمنهج متعدّد الأبعاد، جامعاً بين التحليل النفسي والاجتماعي والتاريخي.
تحليله النفسي للمزاجين التاريخيين، مزاجين متقابلين يتناوبان طبائع الناس، مزاج يعمل أعماله للأريحية والنخوة، ومزاج يعمل للمنفعة والغنيمة.
فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة بالحق، وكراهة للنفاق، وانتصر يزيد بأرذل ما فيها من جشع ومراء وخنوع لصغار المتع والأهواء.
أعوان يزيد إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو جلّاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال، وأعوان الحسين إذا بلغ أحدهم حدّه في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح، فهي حرب جلّادين وشهداء، وقد عني الباحث العراقي محمد جاسم الساعدي بالتحقيق العلمي لكتاب العقّاد، عام 2004م لمركز التحقيقات والدراسات العلمية بالمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية.
وأصبحت كربلاء “حرماً مقدساً” يزوره المسلمون للعبرة والتذكر، وغير المسلمين محبة ومؤاخاة، ولكنها لو أعطيت حقّها بالتنويه والتخليد، لحقّ لها أن تصبح مزاراً لكل البشر ومن يجد في نفسه نصيباً من القداسة، والفضيلة.
واعترض “خالد محمد خالد” على الرأي الواضع موقف الحسين بين جدلية الجمود والتقدّم، وحسب قوله: (قول البعض بأن الإمام الحسين ووالده الإمام علي كانا بإيمانهما، وبما ينشدان للحياة وللحكم من ورع وتقوى يمثّلان جموداً لم تعد تطيقه الحياة بعد التطوّر البعيد الذي حقّقه الإسلام وانفعل به، خطأ، فالحق أنهما يمثّلان روح التقدّم وضميره… فالإيمان الذي حمل الحسين لواءه، وذهب شهيده، إيمان مستنير وواعٍ ورشيد).
واستند الدكتور “طه حسين” لمفهوم “المحنة” التفسيري مؤطّراً به رؤيته وتحليله لحركة الإمام الحسين ونهضته.