الباحث والإعلامي سعدون محسن ضمد: الثقافة العراقية مهزومة وتتعرض للهدم

615

د. علاء حميد /

الباحث والإعلامي سعدون محسن ضمد، يعمل ضمن حقلين هما “البحث الاجتماعي/ الانثروبولوجي، والعمل الإعلامي” وبين هذين الحقلين مسافة، تحتاج إلى تجسير، فهل نجح سعدون في ذلك؟ هل قرَّب بين هذين الحقلين؟ لا سيما أنه درس شعر النعي في إطار رسالة ماجستير، وهو الشعر الذي تحفظه وتؤديه النساء الجنوبيات في المآتم، وهي دراسة كما هو واضح بعيدة عن العمل الإعلامي وقريبة من الانهماك البحثي في قضايا تعد في نظر البعض هامشية وغير ذات أهمية.
لهذا السبب ولأسباب أخرى ارتأت مجلة الشبكة إجراء حوار معه، حوار ابتدأناه بسؤال:
•تمارس عملك الإعلامي وتقوم بأبحاثك في مجال العلوم الاجتماعية في الوقت ذاته، كيف توازن بين كونك باحثاً وإعلامياً في آن؟
-كما يوازن أي مهتم بقضية ما، تقع خارج إطار عمله، بينها وبين العمل الذي يمارسه، الإعلام بالنسبة لي مهنة، والبحث اهتمام أريد له أن يفضي إلى مشروع بحثي يتعلق بأحد مجالات المعرفة أعمل عليه منذ سنوات طوال. ولأن في كل مهنة مجالاً للإبداع، ولأن الإبداع في الإعلام يحتاج إلى نَفَس بحثي استقصائي طويل نسبياً، صار من الممكن أن استثمر اهتماماتي البحثية، المتواضعة، في مجال الإعلام، والعكس صحيح، أقصد أن استثمر العمل الإعلامي أو دوري كإعلامي من أجل الوصول إلى المعلومة، فكما تعلم الإعلام يمنحك جواز مرور إلى مخازن المعلومات، سواء أكانت هذه المعلومات لدى أشخاص أو مؤسسات.
•كيف تصف العلاقة بين الإعلام والمجتمع بعد عام 2003، أهو صانع رأي وموقف أم اكتفى بالإثارة فقط؟
-هذا الأمر راجع إلى الإعلام مؤسسة وأفراداً، فالإعلام عبارة عن مجموعة أدوات، وهناك من يستعملها في تغطية الحدث، تبدأ من تغطيته خبرياً وانتهاء بمعالجته تحليلياً، وفي هذه الحدود، ولأن الأعم الأغلب من الأحداث في العراق سياسية، يوشك الإعلام والإعلامي أن يتحولا إلى مجرد أدوات عند السياسيين. إلا في حال كانت هناك مناعة ترتكز على حياد المؤسسة الإعلامية من جهة وحياد الإعلامي العامل فيها وخبرته من جهة أخرى. لكن على كل حال، وفي حدود هذا الاستعمال، ستدور المؤسسة الإعلامية داخل دائرة السياسة والسياسي.
وهناك استعمال آخر للأدوات الإعلامية، مختلف قليلاً، ينطلق من معالجة قضية ما، سواء أكانت سياسية أو اجتماعية، فتكون القضية هنا هي محور التغطية الإعلامية، سواء أكانت التغطية خبرية أم تحليلية، كما هو الحال مثلاً في تغطية العنف الأسري، أو الحريات، أو العدالة بتطبيق القانون، وفي هذه الحالة ستنقلب الأدوار بين السياسة والإعلام، ولا يعود الطرف الثاني أداة بيد الأول، وربما يحصل العكس، فيأخذ الإعلام زمام المبادرة ويحاول أن يتحكم بالحدث ولا ينفعل به فقط. وهنا يحضر المجتمع في الدائرة، وتتحول همومه إلى أولويات إعلامية..
•هل تعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي، أخذت تزاحم القنوات الإعلامية التقليدية في توصيل المعلومة، بغض النظر عن مدى مصداقيتها؟
-هل هي مجرد مزاحمة؟ لا أظن، وسائل التواصل الاجتماعي تحولت إلى مأزق بالنسبة لأدوات الإعلام التقليدية، لا بل هي تشكل مأزقاً بالنسبة للإعلام كله. شخصياً، ومع التطور المتسارع جداً في وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من طرق جديدة في نقل المعلومة ومعالجتها، بتُّ أواجه مشكلة في تمييز ما هو إعلامي من نشاطات السوشيال ميديا، عمّا هو خاص وشخصي. لقد باتت هذه الوسائل تؤثر في قيمة المعلومة وفي حصريتها وملكيتها وحتى أخلاقيات تداولها. والأهم من ذلك كله أنها باتت تفرض علينا ضرورة إعادة تعريف شاملة للإعلام وأدواته. فليس بوسعك الآن أن تطبق التعريفات التقليدية للإعلام والإعلامي على الواقع المشتغل على المعلومة وبها. تصفح مواقع التواصل الاجتماعي وستجد أن الأعم الأغلب من الناس باتوا يكتبون أعمدة رأي يومية وينشرون موادّ تشبه التحقيقات الصحافية، بل تكون مدعومة بمواد فيلمية، ما يحولها إلى تقارير تلفزيونية، أما تحليل الأخبار والكتابة عن أسبابها ومآلاتها، فهذا ما لم يعد حكراً لا على الصحفيين ولا المحللين، بل صار شغل الناس كلهم.
•هل تلمس تغيراً في ثقافة المجتمع العراقي، وإلى ماذا تعزوه، إلى تأثير الإعلام أم إلى ما حصل من تغير سياسي بعد عام 2003؟
-إذا غضضنا النظر عن التغييرات التي تحصل على المستوى العالمي، والتي تؤثر في العراق، واقتصرنا على ما يحدث داخل حدود بلدنا، فأقول إن ما تتعرض له الثقافة العراقية ليس تغييراً، بل هزيمة وانهدام. الأمر يشبه بالنسبة لي، هجوم وحش مخيف على أهل مدينة فيدفعهم إلى ترك كل شيء والهرب إلى الصحراء، ثم بعد أن يغادرهم الخوف يجدون أنفسهم مضطرين إلى التعايش مع وضع لا يمكن التعايش معه. أقصد بلا بيوت وبلا قانون وبلا خدمات ومحاطين بالوحوش الضارية، هذا الحال أقرب ما يكون إلى الانهيار وليس التغيير. تخيل أن يضطرك قدرك إلى الهرب من خطر وحش واحد وإذا بك تتعرض إلى خطر عشرات الوحوش. هذا هو وضع الثقافة العراقية، هي ثقافة تعرضت لهجوم اضطرها إلى مغادرة كل ما هو حضاري وثقافي، والعودة إلى حياة قريبة جداً من حياة البداوة. صدقني أنا لا أبالغ، بل أتحدث إليك بوصفي باحثاً في الانثروبولوجيا، وهو اختصاص تحمل أنت شهادة الدكتوراه فيه، ولذلك فأنت تعرف بأن عين الانثروبولوجي حسّاسة تجاه مظاهر الثقافة في المجتمع. تخيل أننا نعيش في مدن ليس بها رصيف مشاة، ليس هناك حد واضح داخل المكان بين المجال المخصص للمشاة وبين المخصص للسيارات! الحدود بين المكان الخاص والمكان العام لم تعد مهمَّة، لذلك من الطبيعي جداً أن تجد عربة لبيع الأشياء على طريق السيارات، أو أن تجد حاوية الانقاض تحتل مكاناً مخصصاً للمشاة أو للعربات، وهذه الأشياء ليست بسيطة، لأنها تؤكد أن أبسط مقومات التحضر مفقودة عندنا.
إذاً نحن نعيش من دون أن نتمتع بأبسط مستويات الحماية، ونحن نعيش في مدينة من دون أخلاق ومعايير، وهنا لا اقصد الأخلاق بصورة عامة، بل الأخلاق الخاصة بالمدينة، الأخلاق التي يمليها اقتصاد المدينة وكثافتها السكانية واختلاف مواطنيها الإثني والديني، هذه الأخلاق مفقودة في بغداد وهي عاصمة البلد فما بالك ببقية المدن؟
•كيف تقيم، وباختصار، الواقعين البحثي والإعلامي في العراق؟
-الواقعان يعانيان من مشاكل معقدة، فالواقع البحثي مرتبط بالمؤسسة التعليمية، وهي كما تعلم تعرضت لكثير من عمليات الهتك والتسطيح، ومنذ بدأت الآيديولوجيا البعثية تنتهك حرمة الجامعات عن طريق التدخل بشؤونها، تدخلات آيديولوجية عقائدية، صار التعليم منتهكاً ومن دون حرمة. كما أن تحوّل التمجيد بالسلطة والتملق لها ولعقيدتها معياراً للنجاح، سطّح البحث العلمي وأفقد الدرجات العلمية أهميتها، والأكاديميات دورها.
عندما لا تكون القيمة العلمية للأبحاث هي معيار نجاحها وأهميتها، فسيخلي العلم مكانه للخرافة، ويحل الدجال والمتسلق مكان العالم. أما بعد تغييرات 2003، فقد حل التملق للطائفة أو العرق أو الآيديولوجيا بديلاً عن التملق للسلطة، وصار التدخل بشؤون المؤسسات التعليمية مشرعاً وميسوراً، تحت بنود وشعارات مختلفة. ما يعني أن عمليات الهتك والتسطيح مستمرة.
نعاني من جهة أخرى من غياب كبير للعوامل التي تدعم جدية البحث العلمي، كما هو الحال مع غياب الاستثمار الاقتصادي في الأبحاث والدراسات.
كذلك فإن الدولة، لأنها ريعية، فهي لا تستثمر بشكل جاد؛ لا في التعليم ولا في مخرجات مراكز الدراسات والأبحاث.
الوضع في الواقع الإعلامي لا يختلف كثيراً، ففي زمن البعث كان الإعلام يعاني من رعب السلطة الدكتاتورية وملكيتها لجميع وسائل الإعلام، وفي زمن ما بعد البعث، صار أغلب الإعلام مملوكا للمال السياسي.