“البراءة” وثيقة شعرية من.. وإلى التاريخ

266

سلام عبود/

ظاهرة (البراءة)، بالصيغة التي عالجها مظفر النوّاب في قصيدته (البراءة – 1964) لم تعد قائمة اليوم في جدول عنف السلطة، فهي من أساليب الماضي. لذلك ليس غريباً أن ينشأ سؤال منطقي في ذهن القارئ يقول: ما فائدة القصيدة الآن كموضوع للقراءة؟ وما فائدتها كنص شعري للتذوق؟ وهذا التساؤل بديهي وضروري لا يستوجب الإخفاء، بل يتطلب الإجابة.
والجواب المباشر: إنه نص لا نفع فيه الآن للتذوق الفني والاستمتاع الجمالي. فقد غادر النص منطقة الذوق منذ ولادته، وتوجه نحو التاريخ. ولدت هذه القصيدة في زنزانة. فهي مثل صاحبها نزيلة زنازين. كتبها مظفر وهو قابع في السجن، من هنا جاءت نبرة العنف العاطفي التي تفور بها القصيدة. وربما يندهش كثيرون ممن لا يعرفون مظفر جيداً كيف يمكن لكاتب (زرازير البراري) و(للريل وحمد)، أن يكون مكتظاً بالعنف إلى هذا الحد. وفي واقع الأمر كان مظفر وظل يمتلك الوجهين: أرق الهمسات، وأعلى دمدمات الغضب، كما في (عشاير سعود)، الممتلئة بالدم والنار. هذه القصيدة وثيقة سياسية تاريخية تحريضية، عظيمة الأهمية، وضعها النوّاب في أيدي أبناء الشعب، جاعلاً منها صوت ولسان كل مناهض لأسلحة السلطة وجهازها القمعي.
والنص، من جانب آخر، نقطة ضوء دراسية، ومعرفية، تؤشر لمرحلة سابقة من مراحل عنف السلطة، قلما كانت موضوعاً للبحث المعمق في ثقافتنا، وقلما جرى التوقف عند أبعادها الاجتماعية والنفسية والإنسانية. فـ (البراءة) حالها كحال غيرها من أساليب أخرى مارستها أجهزة القمع الحكومية، التي سادت في بلادنا ردحاً من الزمن، كظاهرة النفي، التي خُصت بها مدن بعينها كمنافٍ (للضالين)، من دون أن نعرف سبب هذا الاختيار الظالم للمنفيين وللمنفى، كمكان وبيئة اجتماعية تمارس دور السجان بالإنابة. والبراءة وسيلة عقابية مارستها جميع السلطات المتتالية السابقة حتى مطلع السبعينيات، حينذاك لم تعد الحاجة إليها ماسة كأداة عقابية فعالة، بل استعيض عنها بوسائل عقابية تلائم طبيعة هذه المراحل. ولم تكن (البراءة) مجرد وسيلة للتحكم بعقل وخيارات وحرية صاحبها، بل إنها في حقيقة الأمر كانت في جوهرها أداة اجتماعية ونفسية وأخلاقية للإذلال، ووسيلة فعالة اجتماعياً من وسائل صناعة مواطن مهان علناً أمام الملأ، في بيئة تولي اهتماماً كبيراً لقضايا أخلاقية، كالعار والعيب والخصوصية الفردية. ولم تكن بدعة نشر أسماء الموقعين على (البراءة) في الصحف اليومية سوى التطبيق العملي للتشهير والإذلال و(كسر العين)، وتالياً وسيلة لصناعة عضو اجتماعي مسحوق روحياً، مستصغر في أعين الجميع، سواء لدى رفاقه السابقين، أو أعضاء المجتمع المحايدين، ومن دون شك لا ننسى حسابات جهاز القمع أولاً. فقد كان التشهير الوسيلة الأسهل والأمثل لإعداد المواطن نفسياً ليكون صيداً رخيصاً بيد أجهزة السلطة، وعضواً مطيعاً، يبحث في الغالب عن مخرج ما ينقذه من حالة انكساره وضياعه ووحدته. وهذا النموذج رأيناه كثيراً، حتى بين صفوف قيادات حزبية مشهورة. وكثيرون منهم يندفعون نفسياً في اتجاهات عدوانية حادة، معنوية أو سلوكية، لتبرير حالة فقدان التوازن والشعور بالعار.
في قصيدة النوّاب التحريضية رأينا الأم والأخت، كلتيهما تستخدم هذه الصيغ الاجتماعية بطرق مختلفة، ولكن واحدة في مضمونها. فقد استخدمت الأم تعابير الخيانة والخسة والجيفة والدناءة وثلم الشرف والعفونة، و(ينهار ركني) و(كل شهيد ينعاد دفنه). وهي تعابير أخلاقية لا علاقة مباشرة لها بالسياسة. ثم راحت الأم تقابلها بما هو نقيضها: الحليب الطاهر، وعلم الثوار، لكي تضاعف من حدة التناقض بين البراءة (النظافة) وبين البراءة (تخلي الموقّع عن مبادئه). وإذا كانت الأم مؤازرة، مشجعة على التمسك بالمبادئ ورفض التوقيع على ورقة البراءة، كانت الأخت لائمة وناقدة إلى حد التخلي عن أخوّة أخيها، الذي لم يستمع إلى صوت ضميره، وإلى رجاء أمه الضريرة، وثقة المجتمع به.
“يا بني ياكلني الجرب عظم ولحم وتموت عيني ولا الدناءة .. يا بني هاي أيام يفرزنها الكحط أيام محنة.. يا بني لا تثلم شرفنا .. يا بني يا وليدي البراءة تظل مدى الأيام عفنة .. وخلِّ إيدك على شيبي واحلف بطاهر حليبي..
كطرة كطرة.”
أمّا الأخت فقد اختارت الجانب الاجتماعي كوسيلة للتعبير عن بشاعة (البراءة) وأثرها النفسي والاجتماعي على أفراد العائلة كافة: (كون الكاع تبلعني)، (شتايم على عرضي)، (بهاي أكابل كل أخت تنتظر منك ثار يا خوية لعرضها)، (أكابل أمهات الناس)، (عار وذلة)، (والكرامة)، (شلون عيني تجانس عيون المحلة)، (تبرينا من اسمك)، (تهتكني بخلك وصلة جريدة)، (يا شعب هذا التشوفة موش ابنّه).
“ولك كون الكاع تبلعني
شخبر الناس
والينشد شكلّه
شلون تجابل عيون المحلة
شلون أوصفك وانت كلك عار وذلة”
وإذا كانت الأم تقابل دنس البراءة بحليبها الطاهر، فإن الأخت تقابله بموقف المجتمع ونظرته إليهم كعائلة، ولكن من المنظور نفسه: النظرة الأخلاقية الاجتماعية. وهنا ربما نصل إلى جزء من الأجوبة المتعلقة بسبب تخلي أجهزة القمع عن هذه الوسيلة الفعالة. هل حدثت تغييرات جذرية جعلت من الروابط الاجتماعية المعقدة بصبغتها الأخلاقية الصارمة أقل تأثيراً على واقع الفرد؟ هذا سؤال في عوز إلى بحث خاص لكي نصل إلى إجابة مقنعة عنه. قارئ الأدب الروائي العراقي يعثر على أجوبة أعمق تتعلق بهذا الموضوع، وأهمها أن (البراءة) كانت وسيلة فعالة لإيذاء الشخصية والنيل من كيانها الروحي. يصل الإيذاء إلى حدود تتجاوز الموقف الأخلاقي، إلى تهديم الشخصية تهديماً تاماً وضياعها. وهذه المهمة كشفت الرواية أثرها لاحقاً، وتتبعت أساليب تدمير الشخصية بطريقة مثيرة. ولم تكن هذه وظيفة القصيدة. فقد قام السرد الروائي بكشف حقيقة خمود العامل الاجتماعي وضعف فعاليته كمنظومة توحيدية فطرية جامعة في منتصف السبعينيات. ولكن من جانب آخر صورت الرواية نهوض واستفحال العامل النفسي وانعكاساته السلوكية، وصولاً إلى حدود تدميرية قاهرة. وفي الثمانينيات نجد انعكاساً مغايراً، لكنه ينبع من المصادر نفسها، نجد ذلك في شخصية كثيرين من المثقفين خاصة بطرق مختلفة، ربما كان مثلهم الأبرز، الذي مارس جرأة استثنائية في التعبير عن خيبته واعتزاله قربته من الاستعراض، الشاعر الكبير يوسف الصائغ، الذي أظهر سلوكه الجامح وجهاً لم نألفه في الصايغ الرقيق، المسالم والعقلاني.
لكل هذه الأسباب لم يكن عبثاً قيام النوّاب بشطر قصيدته إلى شطرين، الأول تقوده الأم بلسانها الأمومي، وتضع فيه عنصرين وجوديين أساسيين في مواجهة (البراءة)، هما حليبها والبيت، صانعة معادلة رابحة في نظرها في مواجهة عار (البراءة) وذلها. وفي انعطافة أبعد تقوم الأم بربط البيت بقوة سياسية محددة هي الحزب، الذي تراه المرجع المثالي الأعلى في مواجهة السقوط والخضوع لشروط السلطة. أما الأخت فلا تقرب من السياسة، وظلت تحصر اهتمامها في العلاقات التبادلية بين أفراد المجتمع، باعتبارها المعيار الذي يقاس به (النقاء) الفردي، والأهم يقاس به مقدار التعاطي السوي مع أفراد المجتمع المحيط بالعائلة والقريبين منها. لقد خرجت هذه القصيدة من التاريخ، باعتبارها واحدة من أقوى الصرخات التحريضية، تفوقت على أخطر البيانات السياسية التحريضية، وصارت فور كتابتها منشوراً يتداوله الناس ويحفظ نصه الكثيرون، جاعلة من الناس سلاحاً من أسلحة المقاومة، وقرّاء محرضين ينشرون موقفهم من طغيان السلطة في كل مكان. ولم تكن هذه القصيدة الثمينة لتولد من دون وجود شاعر مرهف بعظمة مظفر النواب، وثائر أبدي تملأ شرايينه صيحات التحدي الدائم لإرهاب السلطة.