التباس العلاقة بين الأدب والصحافة
رولا حسن /
لطالما كانت العلاقة ملتبسة بين الصحافة والإبداع ذلك أن الشعراء والأدباء كانوا دائما يعانون من التمزق الداخلي بين انحيازهم وانصرافهم إليه بشكل تام, وبين ضرورات الحياة التي تجعلهم مضطرين لمزاولة مهن أخرى يحصلون بواسطتها على لقمة العيش ويتجنبون من خلالها مزالق التبعية والتسول وإذلال النفس. وبما أن الكاتب المبدع لا يستطيع أن يكون تاجرا أو مقاولا أو صيرفيا ناجحا, عدا استثناءات نادرة, فإنه يحاول ما استطاع أن يحصر الأضرار وأن يوائم ما أمكن بين عمله المهني وإبداعه الشخصي.
أن نظرة شبه شاملة إلى واقع الشعراء والأدباء العرب منذ بداية القرن الماضي تقودنا الى استنتاج أن معظم هؤلاء توزعوا بين مهنتين رئيستين الصحافة والتدريس. وربما لا نجد صعوبة كبيرة في إدراك مغزى هذين الاختيارين. فخيار الصحافة يبقي الأديب متصلا بالمادة التي يشتغل عليها, وأعني اللغة المكتوبة. في حين أن خيار التدريس يلعب الدور ذاته في طريق الاتصال بتاريخ الأدب أو الفلسفة واللغة والفكر وفقا للمادة التي يقوم بتدريسها.
وإذا استعرضنا غالبية الأسماء الأدبية منذ بداية القرن الماضي لوجدناها موزعة جميعها بين مهنتي الصحافة والأدب من الشيخين ناصيف وابراهيم اليازجي وأحمد فارس الشدياق ويعقوب صروف وجبران خليل جبران والياس أبو شبكة والأخطل الصغير وطه حسين والعقاد حتى بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وصلاح عبد الصبور وادونيس واحسان عباس وادوارد سعيد وكثر غيرهم.
لكن متتبع حياة الأدباء وتصريحاتهم وسلوكهم يلحظ تبرما واضحا من المهن التي يمتهنونها سواء في الصحافة أم التدريس أم أي من المهن الأخرى. فالمدرس يجد متعة برغم معايشته الشعراء والأدباء الكبار أمثال أبي النواس وأبي المتنبي والجاحظ , إنه لا يلبث أن يشعر بالملل وهو يكرر الدرس نفسه عشرات المرات أمام تلاميذه.
كما أن تدريسه مادتي الأدب واللغة ينقلهما من خانة المتعة والإبتكار إلى خانة التكرار المهني ومن نشوة العشق والحب إلى ما يشبه الواجب الروتيني! إن الأديب والشاعر على وجه الخصوص يحس بعمق الإنتماء إلى القصيدة دون سواها بحيث يرى في الكتابة عالمه الاثير وألويته المطلقة. وعلى الشاعر أن يظل مفتوح الذراعين لاحتمالات القصيدة المقبلة وأن يظل متربصا بها وراء النوافذ والأبواب و الأكمات.
لذا راح معظم المبدعين يشكون رتابة وظائفهم وطقوسها المضجرة والكاتب الذي يضيق بالسطوح والأسقف والمراتب يشعر بالألم والمهانة وهو يتلقى أوامر رؤسائه. أو يتعرض للوم والتوبيخ كأي موظف آخر.
والأدب العربي يغص بالقصائد الهجائية التي يطلقها الشعراء على مرؤوسيهم في السخرية المرة. وما ينطبق على سائر المهن ينطبق على الصحافة. ذلك أن الشاعر أو الأديب غالبا ما يجد نفسه مضطرا لمزاولة هذه المهنة لأسباب تتصل بضرورات المعيشة الصرفة وهذا ما يجعله يمارسها لا بوصفها شغفا واندفاعا داخليين، بل بوصفها أداة لكسب العيش وتأمين لقمته.
وهو أحيانا ينقب عن موضوعاته مثلما ينقب علماء الآثار وسط الخرائب لعل فكرة ما تلمع في ظلام رأسه.
وكثيرا ما تقتات الصحافة من اللحم الحي للكتابة الإبداعية مجهضة الكثير من مشاريع القصائد محولة إياها الى إسقاطات نثرية عادية وهي تأخذ الكثير من الوقت الذي يمكن لأن يخصصه الكاتب للقراءة والكتابة المعمقة. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل الصحافة تقتل الشعر والإبداع أم هناك إمكان للتعايش بين الإثنين؟.
باعتقادي أن لكل كاتب ظروفه وما ينسحب على تجربة من التجارب ليس من الضروري أن ينسحب على الأخرى. لكن لا شك في أن حسنات الصحافة أكثر من سيئاتها. فالصحافة المكتوبة على وجه الخصوص تساهم مساهمة عالية في إثراء قاموس الكاتب اللغوي وفي اكسابه دقة الملاحظة وقدرة على التحليل ورصد لتفاصيل الحياة وجزئياتها. والدليل على ذلك أن روائيين كبارا عملوا في الصحافة وأفادوا منها مثلما حدث لغابرييل غارسيا ماركيز والطيب صالح ونجيب محفوظ وغيرهم.
وقد صرح ماركيز أن الكثير من رواياته بدأت على شكل تحقيق صحفي أو خبر لافت أو مقالة عادية.
وما يصح في الرواية يصح في الشعر. ذلك أن الكتابة الصحفية هي تمرين يومي على اللغة نكتسب بواسطته المزيد من المرونة والطواعية الأسلوبية، ونخفف من عصيان اللغة ونقترب أكثر من لغة الحياة اليومية وتنزع عنا ذلك الميل الدائم إلى التجريد والعمل الذهني الصرف.