الثنائية… والمصائر المتقاطعة

949

جاسم عاصي /

لعل الكاتب العراقي، في مجال السرد القصصي والروائي، انجذب إلى حاضنة الموروث القديم في تناول العلاقات المختلفة من الأزمنة المتغيرة. ومدينة كركوك حظيت بمثل هذا الاهتمام، لا لشيء سوى من أجل تعميق الدلالة المرتجاة من مداولات النص، انثيالات
ولأنها مدينة تنتمي حفرياً للقِدَمْ ولمتغيرات حفلت بها العصور، وكشفتها الحفريات والتنقيبات، وآخرها اكتشاف النفط، حتى أُطلق عليها (مدينة الذهب الأسود) وتعددت تسمياتها (آرانجا، آرابخا، كركوك). وهذه المتغيرات دفعت بالكتّاب والشعراء إلى اتخاذها رمزاً قارّاً، عبّروا فيه عن حراك الزمن المعاصر منطلقين من تاريخها الآشوري الحافل بالسحرية والدهشة، شأنها شأن عصر سومر وبابل، واعتباره جزءاً من التاريخ العام للبلد. فمعظم نصوص الكتّاب ارتبطت بالتاريخ وفق بناء فني، أي أنهم جعلوا للرواية حراكاً تاريخياً، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بالمتن التاريخي الروائي، الذي يستمد حيويته من التاريخ العام، فعلى سبيل المثال، عمد المؤلفون وهم يتناولون تاريخاً ما، ولأسباب تنتمي إلى النظرة التراثية للحدث وعلاقاته الممتدة إلى عمق التاريخ؛ إلى القول: إن للتاريخ متوالية سردية، تزحف بأجزائها نحو تاريخنا المعاصر. فكان لمدينة كركوك الآشورية إشارات تخص تسمياتها القديمة، كما فعل كل من الكتّاب (فاضل العزاوي وجليل القيسي وسركَون بولص ومحمد علوان جبر وسعد السمرمد). وراوحوا بين تسميتين هما (آرانجا، آرابخا)، وهما تسميتان آشوريتان وبهذا اكتسبت المدينة خاصيتها التراثية، وعلاقاتها الحديثة بمنتج النفط (الذهب الأسود)، فاستغل الكتّاب ذلك لتدوين متنها الاقتصادي، للتدليل على عمق وجودها التاريخي أولاً، ولأنها بثروتها هذه غدت جاذبة لأنظار الآخرين ثانياً، كما أن قلعتها العتيدة، التي تمثل آرانجا القديمة، غدت مثابة لتعميق الدلالة، وأعتقد أن هذا الاهتمام سيتعمق لاحقاً، بسبب ثرائه وقوته البلاغية المستمدة من تاريخ المُدن القديمة.
العتبات
أُولى العتبات في الرواية تقود إلى متنها، بمعنى الكشف عن هويتها في ما يخص المضمون حصراً، فهي تُشير في المتن إلى آرابخا الثنائية (المدينة والفنانة زوجة الراوي). فعتبة (آرابخا) تقود إلى مجموعة علاقات ترتبط بتاريخ المدينة، بل العراق برمته كسجل معاصر منذ الاحتلال الأميركي عام2003 وما لحق هذا من متغيرات سلبية على كل الأصعدة، ولا سيما بناء الإنسان، فالعتبة (أرابخا) تُشير مباشرة إلى المدينة العريقة في التاريخ الآشوري. لذا فهي معنية بما سيطالعنا من ارتباط بين تاريخين، قديم ومعاصر، فالاتكاء على تسمية تاريخية، يعني علامة مباشرة للمقارنة بين زمنين. فهي عتبة تقود إلى معنى يعقد مقارنة، ويقدم تبريراً منطقياً للتدهور الحاصل في الواقع. ولعل الرواية، من حيث هي فن، تحوز على جدلية خاصة، هي جدلية علاقاتها الداخلية، فهي ليست نسخة من التاريخ، بقدر ما تأخذ منه، وتعطي تاريخاً منظوراً إليه بفنية روائية عالية، فهي بهذا مدونة لها جدليتها الذاتية. وفي الجانب الآخر تعالج العتبة في المتن العلاقة المضطربة بين (آرابخا + الزوج الفنان). فالصراع الدائر بين الثنائية، يتمحور حول قلق السارد الفنان، ورغبة الزوجة الفنانة للنزوع إلى المطلق الذي يفوق الحرية. بمعنى تحرر الجسد الأنثوي فنياً باتجاه تطلعات ممكنة التحقيق، ولا سيما علاقتها مع الفنان الألماني (فردريك)، وتشكيل القطيعة بين الطرف الآخر للثنائية.
وثاني العتبات هي لوحة الغلاف، فقد احتوت اللوحة جملة أشياء منها (لوحة تشكيلية، كوز تراثي، لِقية، خزانة مفتوحة تحتوي على تمثال أثري). فاللوحة تُشير إلى ما تضمنته الرواية من فعل سرقة لوحات الفنانين الرواد من جدران الفنادق الراقية بعد نسخها، أي تزويرها.
لم يبتعد الفنان عن مؤشر النص في الخيانة الوطنية، فعبر بمخيلته الفنية باتجاه سرقة إرث الوطن الذي شاع بعد 2003 ووجود الأميركان بجنودهم القساة، لحماية وشرعنة التطاول على موروثات الوطن والشعب العراقي وتهريبها إلى الخارج ثم استقرارها في المتاحف العالمية. ولعل الخزانة تُشير إلى فعل فتح خزائن المتحف الوطني بأيدٍ وأصابع عراقية، تعرف جيداً الأمكنة التي حُفظت داخلها التُحف وقاية للفوضى العارمة المرافقة للاحتلال. وبهذا نجد الفنان قد استوعب ما دار في متن الرواية ونفذه بجدارة لافتة للنظر.
وثالث العتبات قدمت تبريراً يعتمد التوجس السلبي في فهم متداول النص، في كونه حاملاً لمعناه بعيداً عن قصدية المرمى. وتلك لازمة اتكأ عليها الكتّاب هروباً من الرقيب، وهي محنة كما يمكن توصيفها ورثها الكتّاب من الأزمنة الجائرة، ولاسيّما في بلدان العالم الثالث التي تعرضت للمؤامرات والدسائس والاحتلالات والتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان بقصد إرباك مسيرتها على كل الأصعدة، فهي (لازمة ــ عقدة) موروثة تعني ضعف الممارسات الديمقراطية الحقة في الحوار وطرح الأفكار.
في العتبة الرابعة، يضعنا الكاتب في صلب الموضوع، لكنه لا يُفصّل ذلك لأن (إلى الخيول الأربعة) هي خيول الفنان الكبير ذائع الصيت (فائق حسن)، إذ أصبحت لازمة دالة لحظة تقييم الفن العراقي، وهي لا تقل أهمية من حيث صياغة الهوية الفنية كما هي جدارية (نصب الحرية لجواد سليم) أو لوحة (الشهيد/ كاظم حيدر)، ومعظم جداريات الفنان (غازي السعودي). كما أن الجملة الأهم في العتبة هي (ولم تكن جزءاً من خيانة القبيلة)، التي تنبئ بمعنى ارتبط مع الاحتلال من جهة، ومع الخيانة العظمى في مؤازرة أبناء القبيلة للاحتلال. لذا فهي لوحة نقية. فقط كان التجاوز عليها كما كشف سياق النص في جريمة سرقة اللوحات بعد تزويرها؛ تُعد جريمة لا تقل عن التجاوز على الوطن بحجة التحرير الباطل، فهي عتبة مهمة بحمولاتها البلاغية بما تضمره من معانٍ، وتؤشره من علامات محفزة للأسئلة.
أما خامس العتبات، فهي كشف لأيقونة مهمة في خلق المدينة وتأسيسها. فـ (واحد وخمسون ضلعاً) و(بناها آشور) ثم (زينها وسجد لها) كذلك سماها (آرانجا… مدينة الذهب)، هذه مقطّعات من خطاب الكاتب لتوصيف تاريخ المدينة المنسوب إلى العصر الآشوري، ولملكها (آشور بانيبال). أرى أن هذه الرواية حازت على عتبات متعددة، تصب جميعاً في المعنى العام للنص، كذلك تؤشر بعمق دلالي عن مضمونها، الذي هو خالق لدوافع الكشف عن المعنى العام عبر القراءة المتأنية.
حراك المتن الروائي
تتعدد بؤر الرواية، ثم تجتمع في بؤرة واحدة تتركز في العلاقة الثنائية بين (الراوي+ آرابخا). وكلاهما يمارس فن الرسم والنحت. بمعنى يمتلك الثنائي وعياً متقدماً. ويتأكد هذا عبر تعدد المحاور واختلاف وجهات النماذج. إذ تتطور وتتمحور في ثيمة مهمة تبرز في ثنائية (أرابخا + أرابخا). فالأُولى رمز الوطن خلال الجزء (آرابخا) مدينة الذهب الأسود. الرواية تدور بأحداثها لتحقق باتجاه ضياع الاثنين. آرابخا المدينة تذهب بثرواتها إلى جيوب المحتل وحيتان الفساد، وآرابخا الحبيبة والزوجة تضيع ضمن محور العشق والانقياد إلى (فردريك)، الفنان الألماني. إن ضياع الثنائي يعني كسر وحدة بناء الشخصيتين الرئيستين، إذ كان المؤمل عبر هجرتهما تحقيق منجز أُسري وفني صاعد. فحياة الراوي، الفنان المرهف؛ تُحيطه جملة أحداث؛ الهرب باتجاه رفحاء، والعودة إلى الوطن والسجن في زنزانات الأمن العامّة، ثم اطلاق سراحه والتمادي في ارتكاب الأخطاء، التي هي أخطاء فادحة تتعلق بخيانة الوطن. ونقصد بها سرقة لوحات الفنانين الرواد، مقابل ثمن بخس. لقد اكتملت خيانة (آرابخا) مع (فردريك) بعد أن قرّت بخيانة تزوير اللوحات واستبدالها بالأصلية.