الخطاب الشعري في القصيدة العربية المعاصرة

430

عدي العبادي /

يشكل الخطاب الشعري في القصيدة العربية إشكالية كبيرة من حيث طرح المضمون والإفصاح عن آيدولوجيات يحملها الشعراء، ورؤيتهم تجاه القضايا العامة، والتعبير عن الحب والوطن والفرح والحزن لما يعيشه الشرق من هموم.
وتكمن الصعوبة في المجتمع الشرقي الملتزم بقيم ومثاليات وكبت للحريات، فلا يستطيع الشاعر العربي البوح بكل ما يجول في خاطره. لذا وجد في قصيدة الحر والنثر الحداثوية متنفساً، لأنها تعتمد على الإيجاز والتوهج، كما يذهب بهذا (أنس الحاج)، ومن صفاتها الاختزال والانزياح. ومن خلال هذه القصيدة سوق الكثيرون من الشعراء مشاريعهم بالتعبير عن إرهاصاتهم، فالشاعر السوري محمد الماغوط في خطابه الشعري بطريقة حداثوية أخرج حبيبته من الواقعية المتعارف عليها إلى فضاءات واسعة بتصوره أن ربيعاً مقبلاً من عينيها، وناشد طير الكناري الذي يسافر في ضوء القمر أن يأخذه إليها، قصيدة غرام أو طعنة خنجر، ونعرف أن المقصود ليست امرأة إذ يقول:
أيها الربيعُ المقبلُ من عينيها
أيها الكناري المسافرُ في ضوء القمر
خذني إليها
قصيدةَ غرامٍ أو طعنةَ خنجر
فأنا متشرّد وجريح
يظهر عنصر المفاجأة عند الماغوط، الذي أوهمنا أنه يخاطب الحبيبة، لكن المقصودة دمشق مدينته، وكان توظيفه للغزل في بداية النص عملية جذب للمتلقي. وهذا الأسلوب اعتمده شعراء العرب القدماء فكانت بداية قصائدهم تتغزل بالحبيبة ثم الدخول الى العمل وطرح المنتج. ونلاحظ أن الماغوط تعدد بصورهِ، وبلياقة فنية صور فمها السكران ولحمه كآثار أقدام على قلبه. إنها ثقافة المكان التي اشتغل عليها كل من (باشلار) و(فوكو)، وهي السرد نيابة عن الأشياء والأماكن، وأن ما وصل له الكاتبان العالميان والشاعر السوري لم يكن عن فراغ، فهناك بعض العلماء يذهبون الى أن الجماد له روح خاصة به تعرف بالروح التكوينية.
بدر شاكر السياب شاعر عراقي يعد من أبرز الشعراء المشهورين في الوطن العربي في القرن العشرين، كما يعتبر من مؤسسي الشعر الحر في الأدب العربي. يخاطب بنص جميل ابنه غيلان معبراً عن أحاسيس داخلية، إنها إرهاصات عاشها الشاعر وترجمها شعراً، وشاركناه في المنتج للجمالية التي احتواها:
بابا بابا
ينساب صوتك في الظلام إليّ كالمطر الغضير
ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير
من أي رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق
وأظل أسبح في رشاش منه أسبح في عبير..
عرف السياب بتوظيف الأساطير في شعره، ونجده أدخل عشتار، وهي إلهة الجنس والحب والجمال والتضحية في الحرب عند البابليين، تقابلها لدى السومريين إنانا، وعشتاروت عند الفينيقيين، وقد أعطاها الشاعر وظيفة جديدة بجعلها تهب الأزاهر والثمار. إنها رؤية شعرية وجمال يضيفها السياب كما أن في الخطاب صوراً فنية حملت طابعاً معرفياً مع روعة فنيتها، فينساب صوت ابنه مثل المطر. ومن خلال النعاس يذهب (باخنين) الى أن المنتج الأدبي لا يحمل طابعاً جمالياً فقط بل معرفياً أيضاً.
لهذا كان أرسطو يعتبر الشعراء مفكرين وعباقرة لما يكتبونه من إبداعات، واعتقد الإغريق أن آلهة تتقمص أجساد الشعراء وتنطق على لسانهم، كما تطالعنا صور شعرية في النص، حين يخاطب الشاعر ابنه بقوله: كأن روحي في تربة الظلماء حبة حنطة.. وصداك ماء. أي شعور جعله ينطق بها، لقد تجاوز السياب نفسه بهذه الضربة، وهي تدل على قدرة الذات الشاعرة عنده، ومن الملحوظ في الخطاب كله الحزن والألم والفقر، فقد عاش الشاعر مريضاً يتيم الأب والأم وكانت مرحلة الخمسينيات التي برز فيها قاسية في العراق والوطن العربي وقد انعكس ذلك على خطابه.
محمود درويش شاعر فلسطيني وتجربة شعرية مهمة وواحد من أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. يعتبر درويش أحد أبرز من أسهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه، وتنوع درويش في خطابه فشكل مجموعة من الصور:
مثلما ينتحر النهر على ركبتها
هذه كل خلاياي
و هذا عسلي،
وتنام الأمنية
في دروبي الضيقة
ساحة خالية،
نسر مريض،
وردة محترفة
مجموعة أطروحات جمعت بنسق تحت مسمى النص، وقد برع الشاعر باختزال شعري فكان اشتغاله بالتأويل تاركاً للمتلقي عملية الاشتباك مع النص وفك شفرته لمعرفة ما يريد الشاعر قوله، فالمتلقي المرسل له، المعني بالخطاب، هو الشريك الثاني في العمل، ولهذا يسعى كل شاعر إلى إيصال منجزه للذائقة وتسويق مشروعه الإبداعي. ونلاحظ أن درويشا جعل الخطاب مفتوحاً، إذ كانت البداية صورة جميلة وتشبيهاً حداثوياً بقوله: مثلما ينتحر النهر على ركبتها، ولم يحدد الدلالة بهذه الصورة، إنه ابتكار.
أمل دنقل شاعر مصري مشهور قومي عربي، ولد في أسرة صعيدية، كان والده عالماً من علماء الأزهر، ما أثر في شخصية أمل دنقل وقصائده. اختار أن يوجه الخطاب الى زرقاء اليمامة وهي شخصية عربية قديمة، امرأة نجدية من أهل اليمامة، يقال إنها كانت ترى الشخص على مسيرة ثلاثة أيام، ولها قصة مشهورة، إذ كذبها قومها فخسروا كل شيء حتى وطنهم، وقد اختار دنقل هذه الشخصية ليشكو لها حال بلاده والبلدان العربية حيث يقول لها:
أيتها العرافة المقدَّسة ..
جئتُ إليك.. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبرّ الجبين والأعضاءْ.
لم يوحد دنقل الخطاب الذي جعله مفتوحاً، معبراً من خلاله عن الحالة، فكان أشبه برسالة مفتوحة او محاكاة لواقع مرير، ومع هذا فقد حمل العمل جوانب فنية جعلته يرقى الى أن يكون نصاً متكاملاً ظهرت ملاحمه الإبداعية في التعبير بقوله: منكسر السيف، مغبَّر. هذا التشبيه يعطينا دلالة على أن قوة الشاعر منكسرة لأن السيف رمز لقوة العربي، كما ربط حاله بحال الواقعية التي يعيشها فكان إنتاجه إبداعاً حقيقياً برمزية، ومع التعدد في طرحه، لكنه حافظ على بنية النص وتماسكه. ومع أن الأدباء المصريين عرفوا بكثرة السرد، لكن دنقلاً اشتغل على الاختزال ليفتح عند المتلقي باب التأويل وفضح المسكوت عنه.