الدكتور عبد الحسين شعبان:ثلاثة أركان ساهمت في تكويني: القرآن والشعر وفكرة العدالة الاجتماعية
كاظم حسوني/
المفكر والكاتب العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان لا يحتاج إلى تعريف كونه قامة ثريّة متنوّعة الاهتمامات والاشتغالات، فمؤلفاته التي فاقت الستين كتاباً تعكس مساهماته المتعدّدة بقضايا الفكر والأدب والحداثة والتجديد، والفلسفة والأديان، والمجتمع المدني، فضلاً عن اشتغاله في الشؤون الاستراتيجية العربية والدولية، والقانون الدولي وحقوق الإنسان.
درس وتعلّم في مسقط رأسه مدينة (النجف) وتخرج في جامعة بغداد وواصل دراسته العليا في براغ. فنال درجة الدكتوراه في فلسفة القانون، وعاش في المنفى طوال العقود الماضية، وله مساهمات في تأسيس عدد من منظمات المجتمع المدني المحلية والعالمية. إلتقته مجلة (الشبكة) وأجرت معه حوارا مطولا ننقل منه مقتطفات حيث سينشر كاملا في مكان آخر:
منابع متعددة
¶دكتور شعبان، الإلمام والكتابة في حقول مختلفة كالعلاقات الدولية والاقتصاد والعلوم السياسية والفن والقانون وميادين كثيرة أخرى خضت فيها ووضعت عشرات المؤلفات عنها، ما تفسير هذا التوزع بكل هذه الميادين الذي يعد حالة نادرة؟
-أعتقد أن الحقول التي تحدثت عنها هي عبارة عن روافد من منابع متعدّدة لكنها تصبّ في مكان واحد، أطلق عليه المشترك الإنساني للثقافات المتعددة أو لثقافة إنسانية واحدة ذات فروع متعددة، والمشترك بمعنى تجاور وتعايش وتلاقح مصادر المعرفة والثقافة، ولأن مصادر المعرفة والثقافة متعدّدة يحتاج الإنسان إلى التوسّع والغور فيها والاستزادة منها لاستكمال أدوات المثقف وتعميق مداركه وبالتالي تسهيل مهمة امتلاكه قدرة متنوّعة للتعبير.
شخصياً أشعر بشيء من التواصل والحميمية والعلاقة الجدلية العضوية، ولا أرى وجود حواجز أو أسوارا تفصل ما بين هذه الحقول، فالعلاقة بالقانون تتصل بالاقتصاد والسوق، والسوق له علاقة بالثقافة، وللثقافة علاقة بالحياة ووسائل العيش، ونجد تجلياتها في حرّية التعبير والدين والمعتقدات، هذه كلها تتصل بالسياسة، والروافد جميعها تكمّل بعضها البعض ولا يمكن فصل أحداها عن الأخرى. قد نفصل بعض الجوانب عن الأخرى، إلّا أن هناك خيوطاً متواشجة وقوّية بينها.
معقل الاحرار
¶خرجت من أزقة النجف والعوالم الروحية إلى البيئة الأوروبية المنفتحة، أيمكن وصف تأثيرات ذلك في مسار حياتكم؟
-خرجت من النجف لكنها لم تخرج مني، كتبت قبيل سنوات عنواناً أقول فيه “هذه النجف التي توشوشني”، إنها دائماً حاضرة، وإنني دائماً أرآها ممشوقة القوام، متقدة الفكر، شديدة الخصوبة، متألقة وجميلة وولاَدة، كنت أستفزّ السيد (هاني فحص) أقول له ألّا تخرج النجف التي في داخلك، حتى جاءني بكتاب عنوانه (ماض لم يمضِ)، قلت له صدقت النجف ليست ماضياً، النجف حاضر، إنها متآخية مع التمرد، مع التغيير، النجف متطلعة للتجديد، قد تستكين، وقد تسكت لكنها تغلي مثل المرجل الذي بداخلها، لأن مناخ النجف جدل، مثلما الشعر فيها يطبع الحياة بكل تفاصيلها.
أذهب وأعود وأرحل وآتي، والنجف باقية في قلبي أحملها أينما حللت، لها الدور الكبير في تكويني وتعميق مسالك روحي، ثلاثة أركان أساسية ساهمت في تكويني، القرآن والقيم الإسلامية والشعر بشكل خاص والأدب بشكل عام وماركس وفكرة العدالة الاجتماعية . بعد الدين والأدب جاء اليسار بكل هيبته وجلاله وطهرانيته ليمثل رافداً مهماً في تكويني، كل ذلك كان متعايشاً في المنزل والعائلة، ولدى شلّة من الأصدقاء في المدينة والأزقة، المتطلّعة للعدل والمساواة، والباحثة عن حياة حرّة كريمة.
في الحوزة الدينية ابتدأت أولى محاولات التمرد في القرن العشرين، حتى سميت بمعقل الأحرار، ثمة خمسة من الشباب كان لهم شأن كبير ومن عوائل دينية تخرّجوا من مدرسة (الآخوند) سعيد كمال الدين، سعد صالح جريو، وأحمد الصافي النجفي، وعباس الخليلي، والخامس علي الدشتي وهو ايراني الجنسية أصبح له شأن في إيران، الأربعة الآخرون ساهموا في ثورة العشرين، كمال الدين وجريو، اضطر بعد فشل الثورة للهروب إلى الكويت والصافي النجفي والخليلي هاجرا إلى إيران، الصافي هناك أنجز ترجمته الجميلة (لرباعيات الخيام).
صداقات واسعة
¶جمعتكم صداقات مع شخصيات كبيرة ومهمة كالجواهري، مظفر النواب، والبياتي، ومصطفى جمال الدين، والحصيري وأبو كاطع، وغيرهم، أود أن تحدثنا عن أبرز الذكريات؟
-يصعب عليّ اختزال العلاقة بعدد من الأدباء بحديث صحفي لا أريده أن يكون سريعاً لأنه يكون مجتزءًا، فالبياتي الذي تعرفت عليه عام 1969 في القاهرة وجالسته في مقهى (لاباس) وفيما بعد في بغداد وبيروت وعمان ودمشق، كان “يأتي ولا يأتي”، كما في عنوان أحد دواوينه الشعرية، وللبياتي رؤية سبقتنا ليس على صعيد الشعر فحسب، بوصفه أحد رواد القصيدة الحديثة، بل حتى في أطروحاته الفكرية والثقافية، إذْ لم نقبل حينها نقده للاتحاد السوفيتي، واعتبرنا قصيدته التي أهداها إلى ابنه (علي) هي أقرب إلى التشاؤم والقنوط، ولنقل ربما بشيء من عدم الوفاء، خصوصاً عندما غادر موسكو، لكنه كان أكثر منا بعد نظر وبصر وبصيرة، القصيدة فيها نقد شديد للتجرية الاشتراكية التي يقول فيها : مدن بلا فجر تنام / ناديت باسمك في شوارعها / فجاوبني الظلام / وسألت عنك الريح وهي تأن في قلب السكون / ورأيت وجهك في المرايا والعيون وفي بطاقات البريد / مدن يغطيها الجليد..
البياتي شاعر كبير، محليته منحته هذا البعد العربي والعالمي، وله صداقات واسعة، أما الجواهري: فقد عاش في بيتنا، كتبه ودواوينه ملأت مكتبات الأخوال والأعمام، وارتبطت معه بصداقة زادت على الثلاثين عاماً في (براغ ودمشق) وكتبت عنه كتابين الأول بعنوان (الجواهري في العيون والأشعار) عام 1986، في دمشق بالتعاون معه، وقد كتب مقدمته، ذكر في ختامها، “أشكر أخي وصديقي الأديب والمؤلف عبد الحسين شعبان على فرط أتعابه.وفيما تقابل به معي وفي اختيار هذه العيون وفي تصحيحها وتدقيقها والإشراف على طبعها. وقديماً قيل من (يصنع الخير لا يعدم جوازيه / لا يذهب العرف بين الله والناس).
والكتاب الثاني (الجواهري جدل الشعر والحياة) 1997 فقد صدر بثلاث طبعات، فضلا عن عشرات الدراسات والأبحاث التي نشرتها عن تجربته ومحاضرات كان آخرها في جامعة بوزنان في بولونيا، ويعدّ الجواهري الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر العمودي، وقد حملت قصيدته نزعة تجديدية.
ويعد مظفر النواب، شاعر القصيدة الحديثة الشعبية، وهو رائدها بامتياز ويمثل مدرسة استكملت بمساهمة كبيرة من قبل لفيف من الشعراء منهم شاكر السماوي، وعزيز السماوي، وطارق ياسين، وعريان السيد خلف، وجمعة الحلفي، وكاظم اسماعيل كاطع، وكاظم الرويعي، وآخرون، لم أجد أديباً اكتملت فيه صفات التماهي بين نصه وأخلاقه وسلوكه مثل مظفر النواب، إنه أخلاقي بامتياز، وقد جمع الإبداع بالنضال، بالتجديد، بالسلوك الإنساني، ويعدّ نموذجاً نادراً، ربط القول بالفعل في كل حياته، كان راقياً، وذا كعب عال، وغير متطلب، تشكل قصيدته (للريّل وحمد) فضاءً جديداً للشعر الشعبي العراقي.
شاطئ السلام
¶جامعة اللّاعنف وحقوق الانسان، التي تترأسها، متى تأسست، وما أبرز العلوم والدراسات التي تقدمها؟
-توصّلت من خلال مسيرة حياتي وتجاربها، إلى أن العنف لا يستطيع يوماً أن يوصل المرء ولا المجتمع إلى شاطئ السلام، إنما العكس تماماً، لذلك بادرت مع مجموعة من الزملاء إلى تأسيس الجامعة بعد انتقالي من العمل السياسي إلى العمل الحقوقي بالتوازي مع العمل الفكري، والرابط الرئيس هو الجانب الإنساني، والسعي لخدمة الإنسان، فالعنف لا يولد إلّا العنف، ونحن بحاجة إلى معالجات لوضع حد لظاهرة العنف، والأساس مقارعة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، خاصة إن فكر التطرّف ينطلق من التعصّب، والتعصّب والتطرّف حين ينتقلان من حقل الأفكار إلى الممارسة يصبحان إرهاباً، الأمر الذي يستدعي معالجات وتدابير قانونية وسياسية واجتماعية واقتصادية ودينية وتربوية، وطبعاً كل ذلك ضمن إطار فكري بديل عن التطرّف، نحتاج إلى ترسيخ قواعد التسامح وقبول الآخر، وحق الاختلاف والتعدّدية والتنوّع، والحق في الدفاع عن الحق.
وللتطرّف أصول بعيدة ففي المجتمع الإسلامي الأول، كان هناك شكل من أشكال التطرف، انطلق في زمن الخلافة الراشدية، وإلّا كيف يقتل ثلاثة من الخلفاء غدراً، عمر وعثمان وعلي بن أبي طالب، في حين أن الإسلام يدعو إلى التسامح والتآزر والتواصي، وكل ذلك من مزايا التسامح، وفي القرن السابع الهجري كانت هناك طروحات (ابن تيمية) المتطرفة، وما الحديث عن الفرقة الناجية إلّا عدم اعتراف بالآخر وصولاً إلى (داعش) التي قتلت واستباحت المسيحيين والمسلمين والايزيديين، وكل من لا يقبل بمنهجها الإقصائي الإلغائي التكفيري.
جامعة اللاعنف
الجامعة تأسست في العام 2009 وهي للدراسات العليا وفيها 9 فروع أساسية عن فلسفة اللّاعنف والتربية على الّلاعنف وحل الخلافات بالوساطة واللّاعنف والعلاقات الدولية واللّاعنف والتنمية واللّاعنف وحقوق الإنسان واللّاعنف ومسرح اللّاعنف، وهناك فروع أخرى جديدة نفكر بافتتاحها.
مؤسسا الجامعة المفكّرة التربوية د. أوغاريت يونان والمفكّر اللّاعنفي د. وليد صليبي وأعضاء مجلس الأمناء بعضهم حائز على جائزة نوبل من الشخصيات العالمية.
¶العدالة هاجسك وهمّك الكبير، كتبت الكثير عنها، وطوردت من أجلها، ماذا تقول؟
-كنت أحلم بمجتمع خال من الاستغلال والقهر، تتحقق فيه العدالة. من دونها لا يمكن الحديث عن الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وعن مواطنة متكافئة، ولا عدالة مع تفشي الفقر، وتخمة البعض وحرمان البعض الآخر، هذا هو قلقي الدائم، وهاجسي المقيم، بل حيرتي التي أعجز عن الفكاك منها،
والهدى بالحيرة
والحيرة حركة
والحركة حياة
حسب ابن عربي
فما زلنا نهتدي بالحيرة، علينا بالحركة، والحركة تعني مواصلة المشوار لتحقيق العدالة، ومجتمع السلام والتسامح والعيش المشترك.