الدكتور ميثم الحلو: العقلانية سبيلنا الى الخلاص

2٬348

جواد سليم /

يرى أن استمرار الحياة وتطور المجتمعات يحتاجُ الى رؤية معاصرة وقراءةٍ مختلفةٍ للتأريخ والفكر الديني تتماشى مع الحاضر ومتطلباته. ولد في قرية (الرغيلة) قرب طويريج. أكمل دراسته الابتدائية والإعدادية في الحلة والجامعية في بغداد متخرجاً في كلية الطب – جامعة بغداد متخصصاً بالامراض الجلدية.

عشق القراءة منذ الصغر فقرأ الأدبين العالمي والعربي والتأريخ وعلم النفس والفلسفة والشعر، لتأتي ثمرةُ مسيرته الأخيرة بإنشاء تجمع (لمن يجرؤ على العقلانية) الفكري في خيمة بالقشلة في شارع المتنبي. إنه الطبيب والروائي والكاتب الدكتور ميثم الحلو الذي كان لنا معه هذا اللقاء:

* بدايةً حدثنا عن تجمع (لمن يجرؤ على العقلانية)، الى ماذا تريد أن تشير، لأن (لمن يجرؤ) بحد ذاتها قد تعد استفزازاً؟!

-الاستفزاز مطلوب أحياناً.. لا أفقَ متصوراً للتغيير دون استفزاز الأسئلة وتحريك الراكد والراسخ في القلوب والأذهان دون مراجعة.. الركون إلى الى استعباد الآيديولوجيات والحلول الكاملة غير القابلة للتفاوض والنقاش هو تعبير آخر عن الاستسلام والاستلاب.. الاقتراب بالنقد من المناطق المحظورة يستدعي بالتأكيد قدراً من الجرأة.

كل المنجز الحضاري الحالي يعتمد على ركيزتين أساسيتين؛ العقلانية العلمية ومدونة حقوق الإنسان.. ودون مقاربة هاتين الركيزتين لا منفذ لنا من انغلاق الأفق العلمي والحضاري بل وحتى الأخلاقي.. هنا علينا بالتأكيد أن نجرؤ.. ومشروعنا كان لمن يجرؤ فقط أن ينتمي إلى الحقيقة والمعرفة وأن يأتي إليها محايداً دون مسبقات ومسلّمات.

*هل يُعنى التجمع بفكر مُعين أم أن الإنسان قبل كل شيء؟

-لا يعنى التجمع بفكر معين.. كما أسلفت يعنى التجمع على العكس تماماً بالخروج من تحت سقف الآيديولوجيات واستعبادها.. هو الانحياز للإنسان بالمجمل وهو انحياز للذات ببساطة.. لا منهجية معتبرة في تجمعنا سوى نقد المناهج المحسومة والآيديولوجيات والانفلات من استبدادها المفضي للاستلاب. نعم الإنسان قبل كل شيء.. ونعني بهذا التمرد على كل تصور يقضي بقصور الإنسان عن الإفصاح عن موقفه أمام الوجود والعالم.. ويعني أيضاً جدارته في اختيار النظم التي يحيا بها حياته دون وصاية.

* ما الضرورة التي حدت بميثم الحلو ورفاقه للبدء بتجمعهم؟

-بعد الفترة العصيبة التي مرت بالعراق وسنوات العنف الطائفي وخطاب الكراهية؛ كنا على يقين أن خلف هذه الحرب المستعرة والانقسام المجتمعي الحاصل تكمن أسباب معرفية.. لم نكن نتصور حلاً دون التوجه إلى الأسس المعرفية للإرهاب والطائفية والتخلف.. لم يكن تجمعنا المعرفي متوجهاً إلى النخب في القاعات المغلقة بل للجميع في الهواء الطلق في مكان مفتوح.. يمكن لأي أحد أن يجد مكانه فيه مستمعاً ومحاوراً ومساهماً. من هناك في ذلك الأفق المشحون بالتعصب والكراهية بدأنا خطواتنا الأولى ولم تكن الطريق معبدة أبداً.. لكنها أثمرت في الأقل أنها أسهمت في ترسيخ ثقافة جديدة لقبول الآخر وتغليب فكرة المواطنة على بقية الانتماءات.

* هل نحتاج إلى أنماط جديدة من القراءة للفكر الديني والتأريخ لمواكبة التطور الحضاري؟

-بالتأكيد.. عندما نتخلف حضارياً وعلمياً ومعرفياً واقتصادياً وأخلاقياً.. لا بد من مراجعة. الاستسلام لقراءة قديمة لا تلقي بالاً لقيم الحداثة أو حقوق الإنسان موت مؤكد.. نحن كحضارة عربية وإسلامية نجد أن لدينا ما نقوله للعالم.. نحن نستند إلى إرث معرفي وحضاري مذهل يمكن لنا أن نقدمه للعالم.. المشكلة فقط في الفهم الجامد للنصوص.. النص الذي يسمونه مقدساً منفتح للقراءات وقابل لقراءة إنسانية لا تتعارض مطلقاً مع منتجات الحداثة وحقوق الإنسان.. الرضوخ لقراءة القدامى خيانة للذات.. للعرب والمسلمين إضافات جوهرية للمنجز الحضاري العالمي ويمكننا قطعا أن نواصل من حيث انتهوا.

يمكننا محاولة المقاربة بين النص المقدس والمنجز الحضاري والمكاسب الأخلاقية والإنسانية.. وهذا لا يتم إلا من خلال إعادة القراءة وفق هذه المعايير.. وقد تُفاجأ كيف يمكن للنص أن يتقبل ضوابط العلم والإنسانية لو تحررت من الفهم الذي فرضه القدامى على النص.

* قولبة العقل والفرد وفق آيديولوجية معينة لا تنتج أفراداً مبدعين وفاعلين في المجتمع، ما الذي يحاول (لمن يجرؤ) فعله؟ ألا تنتجون قوالب أخرى أم هي محاولة لإخراج الفرد من محدوديته الفكرية؟

-الآيديولوجيا، أية آيديولوجيا، تحمل في داخلها بذرة فنائها.. مجرد تقديم حل كامل لكل المعضلات يحتوي على قدر كبير من الغباء والعجرفة.. بل ويجعل الفشل أمراً حتمياً.. فالكون متغير والإصرار على الانضواء تحت راية الآيديولوجيا خيار خاسر.

نحن لم نقدم حلاً سحرياً.. لكننا كنا نشاغب دائماً الحلول الجاهزة والمطلقة. كنا دائماً نفسح المجال لهذه الحلول لأن تفصح عن هشاشتها ونقصها وفشلها. أحياناً, كنا نمارس ذلك دون تدخل.. ربما فقط في تبيين المطالب وشرحها والتعريف بها والسماح للأسئلة الحرجة أن تجد طريقها إلى المناطق المحرمة. كان القرآن يستجيب كثيراً للأسئلة.. كان يجيب التساؤلات.. يقول يسألونك عن.. لماذا علينا الآن أن نتوقف؟ كان النص يشجع على الحوار.. يقول بثقة: قل هاتوا برهانكم.. والآيديولوجيا الدينية الحالية تقمع الأسئلة ولا تلقي بالاً للبراهين. يذكر النص القرآني حواراً بين الله والملائكة حول خلق الإنسان.. في هذا النص تواجه الملائكة القرار الإلهي بأريحية إذ يقولون: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟!.. نحن الآن نفتقد هذا المستوى من الحرية مع من نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الله.. النص تاريخي وقابل للحوار وهذه الفكرة هي سبيلنا الذي يكاد أن يكون وحيداً للحاق بركب الحضارة والعلم والإنسانية.

* في إحدى مقالاتك ذكرت أن الدين يؤسس لسمو الأخلاق والذائقة والمروءة؟ لكن؟

-نعم.. الدين تجربة ذاتية تنتج المعنى.. معنى الجمال والمروءة والأخلاق والإنسانية.. لا يفترض بالدين أن يقف عائقاً في طريق الحياة.. بل يسير معها ويضفي المعنى عليها.. هذه وظيفة الدين.. أما الذين يجرّون الدين إلى أرض ليست أرضه ومحاولة تقديمه كخيار سياسي.. هؤلاء هم من يرومون اندحار المعنى العظيم فيه دون أن يشعروا.

* كيف يمكن لكتب التأريخ أن تفرض هيمنتها وسيطرتها على المجتمعات وتتحكم في إنجازاتها وتطورها وتبقيها رهينة وتابعة للماضي لا تحرك ساكناً بل قد تتراجع وتتضاءل وترتكب كوارث أقل ما توصف بالكارثية (داعش) مثالاً؟

-هذا حاصل لسبب غير منطقي بالمرة.. فمساحة المقدس توسعت على حساب الإنسان.. فاض المقدس زماناً ومكاناً وانحسر الإنسان.. لم يعد ما متعلق بالله والنص المقدس والأنبياء مقدساً وحسب.. بل امتد التقديس إلى قراءات كتبها أناس عاديون.. اللغة أضحت مقدسة والتاريخ أيضا.. كيف يمكن أن نواكب الحضارة ونحن مسجونون داخل كل هذا؟

* صدرت لك روايتان هما (الخفافيش تراود الضياء) و(السعيد في كابوسه الأقصى) هل كانتا نواة لفكرة التجمع أم أن لهما ظروفاً مختلفة؟ وهل نعاني فعلاً من أزمة هوية؟

-روايتا (الخفافيش تراود الضياء) و(السعيد في كابوسه الأقصى) لم تكونا نتاجاً مباشراً عن التجمع لكنهما تسايران بالضرورة نفس النسق الفكري الذي انتهجته المجموعة.. أزمة الهوية كانت حاضرة بكثافة في رواية( السعيد في كابوسه الأقصى).. كانت هذه الرواية مقاربة أدبية لإعادة الروح لمفهوم الهوية التي غابت في زحمة الصراع والدماء.

نعم في كتابي الآخر الذي حمل عنوان نفس المجموعة (لمن يجرؤ على العقلانية) كانت المجموعة حاضرة في ذهني.. فالكتاب مجموعة مقالات في نقد الخطاب الديني السائد ومحاولة تقديم قراءة إنسانية للنص الديني.. وهي ذات المواضيع التي كانت تناقش في المجموعة ضمن مواضيع أخرى شتى في جميع المجالات.

* هل تطمحون لتوسعة التجمع وفعالياته أم أنه محصور في نطاق خيمة القشلة؟

-المجموعة ليست محدودة بالقشلة فهي فاعلة وناشطة في كل الفعاليات الثقافية والمدنية وحتى الاحتجاجية لغرض الإصلاح.. للمجموعة مساهمة مؤثرة في مناسبات ثقافية داخل وخارج العراق.. ونطمح الى إثراء المجموعة ومساحة فاعليتها في المستقبل.

*هل هناك محاذير في التجمع أم أن كل شيء قابلٌ للنقاش؟

-لا خطوط حمراء في المجموعة.. كل شيء قابل للحوار والنقاش.. استضافت المجموعة أشخاصاً من مشارب مختلفة فتجد الإسلامي واليميني والليبرالي واليساري والشيوعي.. كل الأفكار محترمة بعيدة عن الإساءة والشخصنة، وقد رسّخنا منذ تأسيس المجموعة مفهوم الحوار والرأي والرأي الآخر. نعم هناك بعض الصعوبات والمحاذير التي واجهتنا.. لكنها لم تكن كافية لإعاقة مشروعنا لحد الآن والحمد لله.

* هلا حدثتنا عن كتابك الأخير (الخلاص من شرك اللغة والتاريخ.. حفريات في المسكوت عنه) باختصار؟

-كتاب (الخلاص من شرك اللغة والتاريخ.. حفريات في المسكوت عنه) كتاب خطير.. فهو يمس منطقة حساسة في الضمير الجمعي.. يتطرق إلى أصل اللغة والتاريخ . وتأثير المثقف الحزبي في فهم النص والتاريخ.. وفيه هدم ممنهج لكثير من المسلّمات التي دأب البعض على تصديرها كحقائق محسومة.. في الكتاب فصول تطبيقية عن تشريح التاريخ وما ينتج عنه.. وأنا أعتبره كتاباً من مجموعة كتب ستصدر لاحقاً لاستكمال البحث في هذا السياق.