الروائي سعد سعيد: لا يمكن للرواية أن تصل الى غاياتها بلا رسائل مضمرة

1٬016

جواد سليم /

لم يكن يحلم أبداً، أنه سيصبح روائياً يوماً ما، لكنه منذ صغره اختار الرواية جنساً مفضلاً للقراءة من بين كتب مكتبة منزلهم، وأُرغم صغيراً أن يعيش عشرات قصص الحب، مترجماً لأصدقائه مشاعرهم بكلماتٍ ورسائل لحبيباتِهم، كانت بداية تجربته بالكتابة نتيجة وعدٍ قطعه لحبيبته بأنه سيكتب روايةً يوما ماً من أجلها، وتحقق الوعد بعد سنين عدة، فانهمرت من مخيلته الكلمات مثل سيل جارف اكتسح به عالم الكتابة، إنه الروائي سعد سعيد.

* بدايةً حدثنا عن نشأتك؟

– ولدت لعائلة عراقية كبيرة، مجرد عبء مضاف على كاهل نجار طيب يناضل لإعاشة عائلة مكونة من اثني عشر فرداً، ولكن آية حظي كانت أن تلك العائلة تهوى القراءة، فوجدت أمامي وأنا أكبر كتباً ومجلات حفزت خيالاتي، وكان لها الأثر البالغ في وعيي المبكر.. اتفق والدي العاطفي وأمي، العملية التفكير، الطموح، أن تكون الدراسة والشهادة مستقبل أولادهما، ولم يخطر لهما ببال أن أحد أولادهما سيكتفي بأن يتعلم القراءة ويتقنها، لا لنيل شهادة، بل ليقرأ كل الكتب والمجلات الموجودة في العالم، أو تلك التي تصله على الأقل، فبقيت خيبة أمل لهما ولكل معلميّ الذين كانوا يتوسمون فيّ خيرا في بداية السنة الدراسية التي ستنتهي بعلامات الدهشة والتعجب وهم يطّلعون على نتائجي المخيبة فيها!

أنهيت دراستي الجامعية في كلية الإدارة والاقتصاد التابعة للجامعة المستنصرية، ولكنني كنت مرغماً، ثم كان ما كان من الخدمة الإلزامية والجيش والحرب التي استمرت لقرون.

* صدرت لك 8 روايات واحدة لا تشبه الأخرى!

– أحرص على أن لا أكرر نفسي، فأنا ملول، ولا يمكنني ان أكرر تجربة خضتها ومنحتني الإشباع الذي توخيته منها، وحتى إن رغبت بأن أكتب عن موضوع سبق وأن كتبته، سأحرص على تناوله من زاوية أخرى لكي أجد الدافع اللازم لإعادة طرحه.
ورغم هذا فأنا أؤمن أن سعة الرواية كفنٍّ إنسانيٍ تشمل الحياة كلها، فإن أردت أن أتحدث عن الحياة كما أفهمها انطلاقا من زاوية ووجهة نظر واحدة، فماذا عن مليارات الأشياء الأخرى؟!

* هل تتجرد من آيديولوجيتك وهموم وطنك عندما تكتب؟

– أتمنى لو استطيع الإجابة بنعم، ولكننا نعرف جميعاً بأن ذلك أمر شبه مستحيل، لأننا وليدو ظروفنا ونتاج بيئاتنا، وليس سهلا أبداً أن نتخلص من مسلّمات تعوّدناها وأفكار أطّرت حدود نضجنا، كما أن التجرد التام من العاطفة لن يلد إلا نصوصاً جامدة، وأنا لا أعتبر أن ذلك عيب، لأن الرواية ليست درساً في التربية أو مشروعاً لإصلاح اجتماعي، وكاتبها مطالب بالصدق أولاً، أي أنه يجب أن يكتب الحقيقة كما يعرفها، وأن يجتنب إيراد أفكار نظرية استقاها من قراءاته أو من بطون الكتب.. هو مطالب أولا وأخيرا بأن تكون مرجعيته تجاربه الشخصية هو وأفكاره التي تعبّر بصدق عن نفسه.

* هل اللغة وأسلوب السرد البسيطان في الرواية، استهداف لفئة معينة من القراء؟

– أنا كاتبٌ أستهدف بالأساس الفئة الأهم في المجتمع أي الشباب، الذين لا تقوم لمحاولة تنويرية قائمة معهم، إلا إن أثّرت بهم بالدرجة الأساس، ولكي أتقن عملي، فأنا ملزم بأن أجذبهم لمنطقتي لضمان التأثير المطلوب.

أما عن اللغة، فبرغم أنها وعاء للرواية، إلا أنها ليست الرواية نفسها، فلغة الرواية هي السرد، وللسرد شروط ومواصفات لكي يرتقي إلى أن يكون فناً، وأولها الجمالية، وانا أرى بأن الإمعان في توعير اللغة لا يمكن أن تكون جمالاً ولا أريد طبعا أن أبخس جمالية اللغة العربية ثمنها، فهذه اللغة العظيمة كالذهب الخالص، ولكن الصياغة السليمة هي التي تزيدها جمالاً، والوضوح شرط أساسي من شروط العمل الأدبي، رغم المحاولات الحثيثة التي قام بها بعضهم لإشاعة الغموض كمحاولة تحديثية، أنا كاتبٌ أؤمن بأن قمة الأدب والفنون كلها، هو السهل الممتنع.

* في “فيرجوالية” تحدثت عن معاناة الإنسان مع السوشيل ميديا وفضائحها، ما الذي تريد أن توصله للمتلقي؟

– رواية “فيرجوالية” صرخة تحذير ضد خطر مفترض إن استحال واقعاً، فإنه سيكون الخطر الأشدّ على مستقبل البشرية، وأقصد به الذكاء الاصطناعي حين يمتلك إرادته ويستطيع أن يفكر لحسابة الخاص. فالبشرية التي تعودت على معاداة نفسها واعتادت على إدانة الجانب الخاسر منها لمصلحة الجانب الرابح، لم يسبق لها أن واجهت عدواً مثل هذا إن أصبح حقيقية، لأنه عدو بلا مشاعر ولن يستكين حتى يصل بالأمور إلى أقاصيها وإن كانت النتيجة إبادة البشرية جمعاء.. ولكن لأنني أكتب رواية فقط، فقد اغتنمت المتن لإلقاء المزيد من الضوء على خفايا ما يمكن أن يحدث في أعماق هذا العالم الغريب المسمى بالإنترنيت، وترابط ذلك مع تطورات الأمور على أرض الواقع.

* لننتقل إلى رواية “انسانزم”، الحوارات بين شخوصها، حول الوجود، الولادة، الموت، هل هي مجرد أسئلة وأجوبة أم أنها رسائل مستترة؟

– لا يمكن للرواية أن تصل الى غاياتها كاملة بلا رسائل مضمرة تفترش كل مساحة النص.. هذا أولا، وأما ثانيا فأنا أؤمن بأنه ليس من واجب الرواية أن تبحث عن أجوبة، فذلك واجب أولي الاختصاص من سياسيين واقتصادين وعلماء نفس واجتماع وغيرهم.. واجب الرواية الأول والأساس هو إثارة الأسئلة التي تجعل قارئها يبحث عن الأجوبة بنفسه وتعطيه الدفع المعنوي اللازم لفعل ذلك.

* كلُ روايةٍ تحمل قضية يريد الكاتب إيصالها للمتلقي، هل أثارت قضايا رواياتك ضجةً؟

– لدي الكثير مما أريد إيصاله إلى القراء، ولا أعتقد بأن المتبقي من عمري كافٍ لفعل ذلك وإن كتبت في السنة الواحدة ثلاث روايات، ولكن من أين لقضايا رواياتي أن تثير ضجة، أو حتى أن تسترعي انتباه أحد خارج نطاق العشرات المعدودين من قرائي، إن كانت الأغلبية في بلدي لا تعرفني؟!
ومع ذلك فأنا كاتبٌ، ولا يمكن لمهمتي أن تتعدى حدود الكتابة، وإن كان قدري ألا أنال الشهرة والتأثير الذي أتمناه، فأنا راضٍ بما سيتهيأ لي في النهاية.

* هل قصدت في مواضيع رواياتك كسر “التابو”؟

– واجب كل كاتب يحترم نفسه أن يحاول كسر التابو كلما تهيأت له الفرصة، على أن لا يؤثر على مشاعر القراء بطريقة سلبية.. نعم، سبق وأن كسرت هذا التابو، وسأفعل كلما سنحت لي الفرصة.

* كيف يجذب الروائي المتلقي لقراءة روايةٍ ورقيةٍ في ظل التطور التكنولوجي؟

– الرواية الجيدة تجتذب القارئ وتجبره على قراءتها، وأنا كاتبٌ أحرص على أن يقرأني الآخرون بغض النظر عن الطريقة، فالحرص على توزيع الكتاب شأن دور النشر، ولا يسعني أن أفعل شيئاً إلا إذا قررت دار النشر أن نوحد جهودنا من أجل قضيتنا المشتركة، ولكن كم دار نشر عربية تولي الكتاب الاهتمام اللازم؟!

أنا أحب القراءة الورقية كثيراً، وأفضلها على الإلكترونية، لأنها الطريقة التي بدأت بها، وهذا لا يعني أنني سأرفض القراءة الإلكترونية إن أصبحت هي السائدة، فلا بد للتطور العلمي أن يلقي بظلاله على كل مناحي الحياة.

* كيف تختار عناوين رواياتك؟

– بل قُل كيف أحتار مع عناوينها! فبعض الروايات يولد عنوانها معها، ولكن أغلبها يستعصي عنوانها حتى بعد أكمالها.. الكاتب أكثرُ الناسِ معرفةً بنصهِ، لذا فهو يبقى متردداً كلما اختار عنواناً خشية أن لا يكون معبراً عن روايته، أعاني كثيراً مع عناوين رواياتي، رغم معرفتي أن العنوان يُنسى حال بدء القارئ بالخوض في المتن، لكن الرغبة بالكمال حاكمة.

* ما هي أصداء رواياتك عند النُقاد العراقيين؟

– حقيقة لا أعرف شيئاً عن أصدائها لديهم، فقد تعوّدت على أن تواجه رواياتي بالصمت والتجاهل.. الروايتان اللتان سبقتا الأخيرة، كتب ناقدان مقالة واحدة عن كل منهما، والأخيرة ما زالت تقبع في أعماق الصمت المعتاد!

* كيف ترى الوضع الراهن للرواية العراقية، وما هي التحديات التي تواجهها؟

– خارج إطار الأسماء المعروفة، والذين هم قلّة في الداخل والخارج، فإنها مصابةٌ بمرضٍ خطيرٍ اسمه الادّعاء لكثرة المتهافتين على كتابتها، خاصة بعد 2003 بغض النظر عن امتلاكهم الموهبة الحقيقية.. هم يتحدثون عن الكمّ الذي يولد النوع في النهاية، ولكن أين هو الكم؟ نظرة فاحصة ستؤكد لنا أن الغالبية العظمى مما كتب ما هو إلا نسخ متعددة لفكرة واحدة.

سيغضب الكثير مني، ولكنني أرى أن الرواية العراقية ستكون في مأزق خطير إن اختفت الأسماء القليلة التي تجعلها على قيد الذكر، وهو أمر طبيعي في ظلّ غياب المعايير التي تحفظ لها تميزها ودوام تطورها، وكثرة المدّعين حتى في مجال النقد وطغيان القيم العشائرية والمفاهيم المتخلفة، ونحن نعرف انه بغياب النقد الحقيقي لن يكون هناك تطور يوصلها الى آفاق أبعد، فالتحديات داخلية بحتة.

* هل ستفاجئ قرائك بعمل روائي جديد قريباً؟

– عندي أعمال قادمة بكل تأكيد، ولكن هل ستفاجئ القراء، هذا أمر متروك للتجربة.