الروائي سلام إبراهيم: أدباء (الدكتاتور) و تسويق قيم العنف

21

حوار/ علي السومري

روائي امتاز بصراحته ووضوحه التام، صراحة أفقدته غالبية رفقاء الأمس. تعرضت عائلته منذ أربعينيات القرن الماضي، حتى التسعينيات منه، للاعتقال والإعدام والتغييب. انتمى إلى العمل السياسي مبكراً، ليلتحق بصفوف المعارضة العراقية في كردستان ضد الدكتاتورية، أصيب على إثرها بالسلاح الكيمياوي ليخسر ثلثي رئته. حياة حافلة، رسمها عبر رواياته الكثيرة، مثل (الحياة لحظة)، و (الإرسي)، و (حياة ثقيلة)، و(إعدام رسام) و(دونت سبيك اسطب).
إنه الروائي سلام إبراهيم، الذي سلطنا في هذا الحوار الضوء على تجربته الإبداعية، حوار ابتداناه بسؤال:
* برأيك هل يمكن أن تكون الرواية شاهداً على العصر؟
الرواية منذ نشأتها كانت شاهدةً على عصرها، إذ قامت بتصوير مجتمعاتها بشكلٍ دقيق فنقلت واقع الحال، الفقر، والظلم الاجتماعي، وعسف السلطات، بحيث أشار ماركس إلى روايات إميل زولا ودورها في فضح المجتمع وتناقضاته.
لنعدد بشكل سريع كتّاب الرواية الروسية، تولستوي، دستويفسكي، جوركي، كانت رواياتهم شاهدة على عصرها، وكذلك الأميركية ؛همنغواي، ميلر، ريد. والفرنسية؛ إميل زولا، هيجو، باربوس. والإنكليزية؛ ديكنز. واللاتينية؛ ماركيز وزملاؤه. والعربية؛ نجيب محفوظ. ولدينا في العراق؛ غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، ومهدي عيسى الصقر، وفاضل العزاوي، وعالية ممدوح، وزهير الجزائري، ومحمود سعيد. ومن جيلي؛ حميد العقابي، وجنان جاسم حلاوي، وهيفاء زنكنة، وكريم كطافة، والعديد من الكتّاب الشباب، أذكر منهم سنان أنطوان، وضياء الخالدي، وأحمد سعداوي، وعمار الثويني، وعلي بدر. هذه الأسماء التي ذكرتها -على سبيل المثال لا الحصر- صورت بصدق واقع المجتمع العراقي الاجتماعي والسياسي، وحللت بنيته بسرد فني حي وصادق تسمع فيه أنفاس الشخصيات وتحس كيانها ومعاناتها، وبالتالي صورت المجتمع العراقي المعاصر وصراعاته، بالعكس تماماً من مذكرات السياسيين العراقيين الضاجّة بالكذب والتبرير وتزييف الأحداث بإخفاء دوافع حدوثها الحقيقية، الروائي إذا لم يكن شاهد عصره لا قيمة لنصّه.
*كيف ترى السردية العراقية اليوم، وهل يمكننا القول إن السرد العراقي وصل العالمية بعد وصوله إلى العربية؟
السردية العراقية بنماذجها المكتملة هي من أفضل السرديات العربية، لا بل ضاهتها، لعوامل تتعلق بطبيعة الظروف التي مرت بالعراق. أما قضية العالمية، فإن الوصول إليها لا يتعلق بجودة وتفرد النص، بل لعوامل تتعلق بالتسويق بشكل رئيس. فالكثير مما قرأته من روايات مترجمة وجدتها روايات عادية، وبعضها ممل ومصنوع. لدينا الكثير من النصوص الروائية تضاهي الروايات العالمية التي يسوقها الغرب، فروايات غائب طعمة فرمان، وفؤاد التكرلي، وجنان جاسم حلاوي، وحميد العقابي، وبقية كتّاب الصف الأول (لدي الكتّاب طبقات) لا تختلف في ثيمها الإنسانية وصوغها الفني، لغتها وجملتها السردية، وبالتالي بنائها، عن أية رواية عالمية مشهورة، جرب قراءة (ليل البلاد) لجنان، أو (الضلع) لحميد، أو (المسرات والأوجاع) للتكرلي، أو (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان، بعيداً عن مقولة (مطربة الحي لا تطرب) ستجدها لا تختلف عن مستوى روايات عالمية مترجمة سَوّقها تاجر الكُتب الغربي.
* هل أنت مع من يقول إن أدب المنفى يختلف عن الأدب الذي كتب داخل الوطن؟
– نعم يختلف اختلافاً بيناً، وفيما يلي التوضيح:
تميزت التجربة العراقية عن مثيلاتها في الوطن العربي بسبب طبيعة التطورات السياسية والاجتماعية في تاريخ العراق الحديث منذ نشوء دولته 1921، صراع سياسي دموي، حركات معارضة مسلحة في جبال العراق منذ أربعينيات القرن الماضي، انقلابات عسكرية دموية أدت إلى دكتاتورية دموية قادت إلى حروب دموية وحصار اقتصادي طويل، ثم احتلال، هذه الظروف أدت بدورها إلى تمّيز الرواية العراقية عن مثيلاتها في الوطن العربي، إذ أفرزت في ربع القرن الأخير تقسيماً حاداً بين نمطين من السرد، الأول مكتوب في ظل الدكتاتورية والثاني مكتوب في ظروف الحرية بالمنفى. الرواية التي كتبت في ظل الدكتاتورية تميزت نصوصها باللجوء إلى الرمز والأسطورة وتاريخ العراق القديم، في بنية روائية أضافت أشكالاً فنية جديدة إلى السرد العربي، لكنها تحاشت الخوض بمحنة العراقي في زمنها، ونصوص برّرت ثقافة الحرب في بنية روائية مجّدت قيم القتل والعنف، ونصوص تناولت مناحي الواقع الاجتماعي في زمنها، لكنها تحاشت جوهر المعاناة، فالتبس السرد والشخصيات ووقعت في الغموض، ونصوص أخرى تحاشت بشكل عام الاقتراب من التابوات الثلاثة السياسة والجنس والدين.
فيما تميزت الرواية المكتوبة في ظروف الحرية بالمنفى برسمها أبعاد الإنسان العراقي الواقع في ظل الدكتاتورية والحرب بعمق ووضوح، مصورةً معاناته، وعذابه، وخوفه، ومقاومته، وعناده، وخيبته، وانكساره. وروايات حاولت قراءة تاريخ العنف من خلال بنية العلاقات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى هذا الحاضر المأساوي. كما ظهرت نصوص ببنية روائية جديدة من خلال تراكم نصوص السيرة الروائية التي تميزت بحرارة تجربة كتّابها الذين خاضوا الحرب في الجبهات والتشرد، والصدق في الكتابة، ما ولّد نمطاً روائياً جديداً في تاريخ الروايتين العراقية والعربية، يحتاج إلى دراسات متخصصة، ونصوص هزّت التابوات الثلاثة، الجنس والدين والسياسة، وأنواع أخرى.
* لم تكن قاصاً وروائياً فقط، بل ناشطاً سياسياً، وقفت بقوة ضد الدكتاتورية التي اعتقلت في سجونها، وقاتلت في صفوف المعارضة ضدها، حتى فقدت جزءاً من رئتك بسبب القصف الكيمياوي، ما الذي استخلصته من هذه التجربة في الرواية؟
قبل تبلور مشروعي الكتابي، انخرطت في العمل السياسي، حالماً بتغيير المجتمع وبناء وطن حر وشعب سعيد، والدخول في السياسة هو في جوهره مشروع نقدي للمجتمع القائم، وهذا قادني إلى تفحص الإنسان والمجتمع العراقي بكل تكوينه وتناقضاته وسلوكه، وحال نضج مشروعي الكتابي عكفت على تحليل هذه البنى وتصويرها من خلال سرد تفاصيل المسار الذي ذكرته في قصص وروايات أثارت حفيظة المجتمع؛ والعائلة، والسلطات، والحزب الذي عملت في صفوفه، لصراحتها وكشفها ما يجرى في الخفاء الذي يحاول الجميع تغطيته، لكنني عرّيته وصوّرته في قوالب جمالية حفرت في المنظومة الأخلاقية للمجتمع العراقي في محاولة لتحريض العراقيين للثورة عليها، ولست نادماً، بالرغم من الخراب العمودي والأفقي التام الذي عمَّ المجتمع العراقي بسبب الدكتاتورية والحروب والاحتلال وسلطة الأحزاب واستشراء الفساد. وخلصت إلى أنه دون توقف العنف وعودة الدولة والقانون سوف لن يصحو العراق من غفوته ولا ينهض من خرابه.
*كتبت عن الأدباء الذين طبلوا لحروب الدكتاتور وقمعه، عن قصصهم ورواياتهم المسمومة، برأيك هل يجب على هؤلاء أن يقدموا اعتذارهم أم عزلهم اجتماعياً؟
كان من ضمن مشروعي الكتابي شق نقدي من اتجاهين، الأول يتعلق بالشخصية العراقية وبنية المجتمع في الواقع، والثاني يتعلق بالشخصية والمجتمع والكيفية التي رسمها النص السردي قصة ورواية، درست وحللت وتتبعت ذلك منذ نشأة القصة والرواية العراقية في مرحلة إعدادي لكتابة نصي. وبالرغم من عدم الاستقرار في ثمانينيات القرن المنصرم، حين تركت جبهة الحرب مع إيران والتحقت بالأنصار الشيوعيين في الجبل حاملاً السلاح، تابعت من خلال صحافة السلطة اليومية، الثورة والجمهورية وغيرهما، التي كان يوفرها رفاقي في التنظيم المدني بشكل منتظم، توفرت لي مادة دسمة فحللت القصص المنشورة وبعض الروايات التي وصلتنا، وقدمت محاضرة للثوار عن أدب القادسية وسماته، وكان أدباً مزيفاً يبث السم والكذب ويقلب الحقائق بشكلٍ فج، أسهم أصحابه خلالها بتسويق قيم العنف والقتل وترسيخ خراب العقول.
هنا في الدنمارك عكفت مرة أخرى على تحليل قصص كتّاب (قادسية صدام) في سلسلة مقالات نشرتها، لم أمس شخص الكاتب، بل حللت وفككت أفكاره في القصة، فثارت حفيظتهم، وتدخل الزميل والصديق القاص محمد خضير وطلب مني التوقف.
المصيبة ليست في الاعتذار، وأنا أول من طالب بذلك في مقال منشور بالحذو إثر عبد الستار ناصر، الوحيد الذي اعتذر عما كتب من قصص تمجد الحرب وقيم القتل في مقال منشور، لكن لم يفعل أي واحد منهم، بل تلونوا في الوضع الجديد وعادوا ليسيطروا على مفاصل مهمة في المؤسسات الثقافية الرسمية، كما نُشِرَتْ شهادتي في جريدة الصباح الرسمية بحلقتين تحت عنوان (الوجه الناصع للأدب العراقي) يومي 14-15- تموز 2004، بينت فيها كيف سلك من قاوم الدكتاتور وكيف سلك من سانده، وبالأسماء، ولِمَ لَمْ نكتب فدفعنا الثمن، وكيف كتبوا وقبضوا الثمن؟ بعد أن عادوا الآن لابسين ثوباً جديداً وموزعين بين الأحزاب، هم يعرفون أنفسهم، وأنت تعرفهم بالتأكيد.
* ما الذي منحك إياه المنفى، وما الذي سلبه منك؟
المنفى منحني كل شيء، فقد وصلت إلى الدنمارك بعد رحلة تشرد في دول الجوار مع زوجتي الكاتبة ناهده جابر جاسم، شبه ميت، بالكاد أتنفس، فعراقي القاسي منحني طفولة معذبة ومراهقة متوترة، وشباباً قلقاً، سجوناً وتعذيباً وملاحقة، ثم سوقاً إلى جبهات الحرب، ثم إتلاف 60% من وظائف رئتيَّ بقصف كيمياوي من السلطة التي كان من المفترض أن تكون حاميتي كمواطن عراقي!
مدَّ المنفى في عمري قرابة 32 عاماً بالرعاية الصحية، وأمّن لي ظروف حياتي الاقتصادية بالرغم من عجزي عن العمل، ووفّر لي الحرية كي أجلس في بيتي طوال هذه الأعوام، أتأمل المخاض الذي عشته فكتبت ما كتبت من قصص وروايات ومقالات نقدية وفكرية، عبّرت فيها عن رؤاي وفلسفتي في الحياة، لعلَّ ذلك يفيد الأجيال القادمة.
* ما جديد سلام إبراهيم؟
– تحت يدي الآن كتاب سردي جاهز (أخيلة في غرفتي) وهو صور قلمية عن بشرٍ مروا في حياتي وتلاشوا وبقى طعمهم في الروح، أخيلة طائرة تدور حولي فأنزلتها على الورق، لدي رواية (في حضرة شيخي الجليل)، مخطوطة كتبتها 1991 وأجلت الاشتغال عليها لحين ترسيم مشروعي السردي الذي رسخت ملامحه وبانت أركانه الآن، وهي تنتظرني بشغف، لدي عدد لا يحصر من مسودات قصص قصيرة تحتاج إلى كتابة، لدي ولدي الكثير، عدا كتابي عن الرواية العراقية، والقصة القصيرة التي تحتاج إلى تجميع ترتيب، إضافة إلى الحوارات التي أجريت معي طوال الرحلة، ومقالاتي الثقافية والفكرية التي تحتاج إلى تجميعها في كتاب.