الشاعروالمترجم سهيل نجم: الإنسان بحاجة دائمة لسحرالشعر
حوار: علي السومري
شاعر ومترجم، لا يترجم إلا ما يتواءم مع مزاجه في القراءة المتنوعة في الرواية او الشعر او النقد، يؤمن بأن أهم تحد يواجه الشعر هو مشكلة عزوف الجماهير عنه. انه سهيل نجم، المولود في بغداد عام 1956، الذي اصدر اربعة دواوين شعرية: (فض العبارة)، عن دار الكنوز الادبية في بيروت عام1994، و(نجارك ايها الضوء)، عن دار نينوى في دمشق عام 2002، و(لا جنة خارج النافذة) عن دار الشؤون الثقافية عام 2008، و(فردوس اسود) عن دار الجمل عام 2015.
ترجم كتباً عدة، من بينها روايات: (الثعبان والزنبقة)، و(القديس فرانسيس) لنيكوس كازنتزاكيس، و(السقوط على الأرض) لتيد هيوز، و(أخلاقيات القراءة) لهيليس ميللر، و(الإنجيل يرويه المسيح) لـ جوزيه ساراماغو، و (إداورد سعيد: مفارقة الهوية) لـ بيل أشكروفت وبال أهلواليا، و(من العنف إلى التراحم) لـ فيرن نيوفيلد ريديكوب، وهو كتاب مشترك مع المترجم مصطفى ناصر.
إضافة إلى كتب أخرى مترجمة من الإنكليزية وإليها، في الشعر والنقد الأدبي والرواية والفكر والفلسفة.
سهيل نجم.. نسلط الضوء على منجزه الإبداعي من خلال هذا الحوار:
التحدي الأكبر
*كيف تقيم حركة الشعر في العراق، وهل أثرت مواقع التواصل الاجتماعي وشيوعها على جودته؟
– أهم تحد تواجهه حركة الشعر هي مشكلة عزوف الجماهير الواسعة عنه، وهذه لها أسبابها في التردي الثقافي العام، والاجتماعي – السياسي، فضلاً عن آفة الأمية في القراءة عموماً، إذ أن هنالك الأمية الثقافية المتفشية اليوم. لكن لابد من الإشارة إلى مشكلة بنيوية في النص الشعري الحديث عند بعض الشعراء، وهي نخبويته، والغموض الذي يستعصي على التلقي بسبب الجنوح إلى الشكلية. لربما تكون هذه مشكلة عالمية إلى حد ما. كتب أحد شعراء الستينيات في إنكلترا، وهو الشاعر أدريان ميشيل: “إن أغلب الناس هجروا قراءة الشعر لأن أغلب الشعر هجر الناس.” لقد أمست مسألة نخبوية الشعر العربي هي السائدة في أوساط كثيرة من المثقفين والشعراء.
على الرغم مما سبق كله، رأيي المتواضع هو أن ثمة أصواتاً استطاعت إيجاد أسلوب شعري متميز يبتعد عن الاتكاء على إغراءات الانزياحات اللفظية، ثمة شعراء -غير قليلين- في العراق والعالم العربي اليوم استطاعوا إبداع نصوص ذات أساليب جديدة فعلاً تستطيع بقوة أن تلامس الواقعين، الحياتي والإنساني، ببساطة وعمق في الوقت نفسه، وأظن أن منصات التواصل الاجتماعي لها دور إيجابي في تقريب الشعر إلى الناس وإن اختلفت المستويات.
* في نقاشات كثيرة مع أصحاب دور النشر وباعة الكتب، نسمع عن ضعف الإقبال على كتب الشعر، ما السبب برأيك؟
– أسلفت القول في مشكلة التردي الثقافي عموماً من ناحية، ومشكلة نخبوية الأعمال الشعرية التي تغالي في التركيز على الشكل من ناحية أخرى. ثمة من يشير إلى أن اللوم يقع على كسل المتلقي الذي تعود على الشعر المنبري الصارخ نوعاً ما. وعليه فإن لدينا حاجة إلى تقريب الشعر الحديث الهامس الذي لا يمنح نفسه بسهولة. أريد القول إن مسؤولية التواصل والتوصيل تقع على عاتق كل من الشاعر والمتلقي، قارئاً كان أم مستمعاً، تحتم الحال على الشاعر والمتلقي الاجتهاد لتضييق الفجوة بينهما. على الشاعر التمكن من أدواته كي يستطيع نقل عدوى الروح الإبداعية إلى المتلقي، مثلما على المتلقي أن يشحذ قدرة الاستقبال لديه لفك الشفرة، غير الملغزة، ويتمثل الطاقة الشعرية من الشاعر. عندما تنجح هذه الثنائية المتقابلة سيذهب القارئ للبحث عن الشعر، متيقناً أنه سيجد فيه لذة الغذاء الروحي والوجداني الذي يعينه على مصاعب الحياة.
* هل تتفق مع من يقول إن الحركة النقدية في العراق عاجزة عن اللحاق بغزارة ما ينتح في السرد والشعر؟
– للنقد دوره في كشف إرهاصات النصوص الشعرية والسردية، وهو يقدم خدمة كبيرة للقارئ، وللمبدع أيضاً. حري بالناقد التحلي بالشجاعة النقدية لفرز الإخفاقات، مثلما يقوم في تبيين الابتكارات الأسلوبية في الشكل والدلالة، وفي تحليل النص وفك شفراته وبيان مستويات الإبداع فيه. ومع أهمية الدراسات النظرية النقدية ثمة حاجة كبيرة إلى الدراسات التطبيقية، وهذه قليلة لا تكاد تواكب ما ينتجه المبدعون، ولعل هذا ما وسع الفجوة التي أشرت إليها بين الأدب والتلقي.
متعة خاصة
* لنتحدث عن الترجمة، ما الدافع الذي يجعلك تفضل كتاباً على آخر من أجل ترجمته؟
– من النادر أن أعكف على ترجمة كتاب عن طريق التكليف. أترجم ما يتواءم مع مزاجي في القراءة المتنوعة في الرواية، أو الشعر، أو النقد. وحين أستمتع في قراءة مادة أو كتاب أو قصيدة، يتولد لدي نزوع بنقل هذه المادة إلى القارئ، فهناك متعة خاصة حين أرى أنني تمكنت من توصيل النص الأجنبي بنجاح مقبول، وأثناء ذلك أشعر كأنني أقوم برحلة، غالباً ما تكون شاقة، لكنها توفر لي درساً جديداً في كشف الجماليات والإشارات الإبداعية في النص، تماماً مثلما أشعر بذلك وأنا أكتب نصي الخاص.
* هل تؤيد من يقول إن الزمن اليوم زمن الرواية لا الشعر؟
– يتردد هذا السؤال كثيراً، وكتب كثيرون عن موت الشعر في الحياة المعاصرة، يمكن القول إننا قد نعيش اليوم في عصر التقلبات والتحولات السياسية والاجتماعية الكبيرة، ما يستدعي الاهتمام أكثر بالحدث وسردياته وتطوراته، والرواية هي الأقدر على رصد هذه التحولات، لذا صارت لها –بالنتيجة- الجاذبية المتقدمة على الشعر. لكن الحقيقة أن أي جنس أدبي لا يمكن له أن يلغي غيره، نعم، قد يحدث التنافس فيما بينها، وقد يطغى واحد منهما في مرحلة من المراحل التاريخية، لكن البنية النفسية للناس تختلف بالطبع من شخص إلى آخر، ومثلما لا يمكن الاستغناء عن السرد في تفاصيل حياتنا، يكون دور الشعر فعالاً أيضاً في دعم الروح الإنسانية بشحناته التي لا يمكن للسرد أن يوفرها، ويبقى الإنسان بحاجة دائمة إلى قوة الشعر في سحريته وتأملاته.
عزلة إجبارية
* هل يعيش المثقف العراقي حقاً محنة خاصة، تسلبه هويته من جهة، ووظيفته التنويرية في المجتمع من جهة أخرى؟
– المثقف العراقي يعيش غربة عن وظيفته التنويرية لضعف تواصله مع الآخرين، وهذا الضعف سببه محدودية القنوات التي توصله إليهم، لذلك يعيش عزلة إجبارية، فمهما حاول الاقتراب يجد ثمة حلقة واهنة في الاستقبال، هنالك سعي مقصود واضح للتجهيل والتركيز على أن يكون الإنسان تابعاً لرمزية بعينها تحاول غلق أبواب التحاور والجدل على اعتبار أنها وحدها تحوز الحقيقة، ولا أحد سواها يحمل طوق النجاة. إذا كان هناك تعطيل وشلل متعمدان للتفكير الحر، وإذا كانت هنالك جدران عالية وقعقعة تمنع المثقف من توصيل صوته، فكيف له أن يقوم بواجبه التنويري المزعوم؟ انظر إلى مستوى التعليم في مراحله كافة وكيف يتداعى، استمع إلى الأصوات العالية الصارخة من حوله في المنابر ومنصات الإعلام. يحتاج المثقف إلى أجواء ديمقراطية معقولة وآمنة كي يوصل صوته ويخلق أجواءه الخاصة بالحوار والاحتكاك الفكري اللذين لابد من أن يفضيا إلى منطقة الاستيعاب والفهم الصحيحين لما هو حولنا لنتمكن -في النهاية- من مواكبة الحضارة.
* ما جديد سهيل نجم؟
– آخر ما صدر لي هو ترجمة كتاب “ملحمة جلجامش” بطبعة ثانية، كتبها شعراً الشاعر والباحث الأميركي هربرت ميسن، عن دار أبجد في بابل، وثمة إصدارات ستجد طريقها إلى رفوف المكتبات قريباً جداً، أولها كتاب “حرب في جنة عدن” بطبعة ثانية أيضاً، وهي مذكرات كتبها كيرمت روزفلت، يتحدث فيها عن أيامه في العراق عندما كان ضابطاً أثناء الحرب العالمية الأولى، وهذا الكتاب سيصدر عن دار شهريار، وعن الدار نفسها ستصدر لي ترجمة كتاب “حزين كسفينة في زجاجة”، مختارات شعرية لـلشاعر “تشارلس سيميك” بالاشتراك مع الصديق محمد النصار. كما ستصدر لي عن دار الرافدين ترجمة كتاب “الإنقاذ الإلهي” وهو تأملات فكرية لنيكوس كازنتزاكيس. فضلاً عن ذلك بين يدي مخطوطات ترجمية أوشك الانتهاء منها قريباً، وكذلك مخطوطة لديواني الشعري الخامس.
مرحون بثياب ناحلة
نحنُ المرحينَ بالترابِ
أغانينا طريةٌ على الشفاه
بينما نحمل أوزارَ حروبٍ ليست لنا.
صورُنا تزينُ جباهَ بيوتِنا
وتلك اليافطاتُ السودِ
وهذه صورُ عشيقاتِنا مبللةٌ بالحنينِ
والموت.
كم مرةً غابَ الوقتُ هنا،
كم مرةً كفَّت الأرضُ عن الدورانِ،
كم مرةً باتَ الضُحى لنا دماً أصفرَ
يسيلُ على متونِ الأسلحة.
هبطنا إلى السرابِ عشيةً
نلملم الحكاياتَ من أصدقائنا الذين
تحت الترابِ
بينما ينظرون إلينا عبرَ نوافذَ القبورِ.
عيونُ الواشين افترستنا
فعُدنا أدراجَنا إلى اللارجوع.
تآخينا وأكياسَ الرملِ من قبلِ
أن يكتمل القمرُ حجراً ويسقطُ
على رؤوسِنا في الفجرِ
ساعة تأخرنا عن واجبنا السحري
وسقينا الأرضَ من جدْبِنا،
علّقنا أرواحَنا على أدواتِ الاستفهامِ
حتى تسرّبنا حُراساً لعالمٍ من نارٍ جليدية.
جرحنا وقتَنا العسكريَ بالعطالةِ
حيث البهاءُ حكايةٌ جديدةٌ أُخرى عن الأبد الفاني
وحيث الأجيالُ تتكالبُ على المكاتبِ الغريبة.
نحنُ أبناء الترابِ
بأيدينا حفرنا ملاجئ الضباط محصنةً..
ونمنا في العراء.