«الشبكة» تفتح ملفّ الشعر النسويّ السوريّ.. حساسية مختلفة ونصوص متخمة برائحة الحرب

1٬150

رولا حسن/

خمس سنوات من الحرب في سوريا، كان الشعر هو الفعالية الأكثر بروزاً في المشهد الثقافي السوري، وظهرت أسماء كثيرة روجت لها الميديا بداية، ثم عبر منتديات ثقافية أهلية، كانت تقام في مقاهي «باب توما» و»باب شرقي» في العاصمة دمشق مثل «يا مال الشام» و»شعر وخمر» و»مسا الشعر» و»أضواء المدينة « و»ثلاثاء شعر» وغيرهم.

الشاعرات كان لهنّ الحضور الأبرز، فالمرأة كانت الأشدّ تضرراً؛ ففي حرب لا ترحم، خسرت المرأة كلّ شيء، حتى أحلامها البسيطة بالحب والحياة، فكان الأبرز هو ردّ فعلها الثقافي، فظهرت موجة جديدة من الشاعرات لم يعد بالإمكان تجاهلهن وسط كل هذا الصخب. جيل بكامله بدأ يحط رحاله على أرض الشعر، تجارب أثبتت قدرتها على تجاوز النص الأسبق، فكتبت نصوص لا تعنى كثيرا ببلاغة اللغة، بقدر ما تعنى بإنشاء لغة خاصة ومنطق خاص يفرضه النص المكتوب وعلاقاته.

نصوص متشظية، كما العالم حولها. نصوص مشحونة بالفقد والخسارة، تفوح منها رائحة الحرب والموت والبيوت المهجورة والدم الذي جفّ على الإسفلت. وهذه ميزة يمكن أن تسم كلّ نصوص شاعرات الجيل الجديد.

شاعرات كتبن نصاً حميماً، لكنه قاسٍ وموجع، يمثل لحظة راهنة في الحياة. ربما لأن قصيدة النثر هي لحظة مفصلية في تأريخ الشعر، ولأنّ هذه اللحظة تتجاوز تخوم الحرب، لكنها لا تغفلها، بل تنزّ منها كجرح قديم.

هنا سنضيء تجارب لستّ شاعرات سوريات من الجيل الجديد سيتضمنهن كتاب، فضلا عن شاعرات أخريات، يحوي إضاءة أوسع على تجاربهن. وفي أعداد مقبلة سنلقي الضوء على مزيد من التجارب الشعرية النسوية السورية.

بشرى البشوات «القنيطرة 1976»

تعمل بشرى على الهذيان السردي الذي تتداخل فيه الأزمنة والعوالم عبر سرد تاريخ شخصي, وذلك من خلال أداء درامي كثيف يكشف عوالم داخلية، وأفعال تتجاوز المنطق المعيش في محاولة لتحرير الشعور وإطلاقه.

قلبي لا يتسع لخيمة

إلى أول سوري بالعالم قطعت حنجرته

عن قلبي الذي لا يتسع لخيمة

وجسدي الذي تشكله خليتان

رسائلك النصية

التي تصلح لشطب تاريخ الضجر

في حياة قصيرة كدمية

تغادر آخر فقاعة فم الغرقى

وحدي أرتب صوت الجثث

في حلق الماء

ألوح للعالم بأول ريبة وهتاف

أشدّ حنجرتي من حبلها

أسحبه

ألفه على صوتي.. حتى لا يختنق.

شروق حمود «1982 مصياف»

تلتقط شروق عالمها عبر كاميرا ذاتها الشعرية، فتعطي بذلك العبارة في أماكن كثيرة إيقاعاً ما، وتجعل بذلك النبرة الشعرية حساسية أكثر عبر خروجها من صمتها والتطلع أكثر صوب المعنى، وبالتالي رؤية العالم من زوايا مختلفة.

عجز

لا أستطيع أن أقف

احتراماً لكم

فلم تعلموني الوقوف

وما كان بوسعي التحية

التي انتظرتم

لأني ادخرتها كلها للعلَم

أما عن الصلوات الطيبات

فقد خبأتها

في سلّة غير مرئية

لدرء الحسد

لذا …

لا موائد عندي

لكم.

عبير سليمان «1974 اللاذقية»

تكتب عبير قصيدتها دون أن تنشغل باليومي، لكنها لا تغفل المهمل والمتروك والمنسيّ في قصيدة هي أشبه بكولاج، تنجح الشاعرة في تشكيله، حيث يشغلها التنافر الجغرافي والشعوري، والتناقض والمِراء الإنساني أكثر ما يشغلها العمل عليه كتقنية داخل القصيدة.

العدو

أغويناهُ بالأغاني الحماسية والقصائد النارية

و لم يأتِ …

تبرّجت رغباتنا بويلاتٍ حمرٍ

و لبستْ له قميص الموت الشفيف

و لم يُثَرْ !

صدأتْ مفاصلُ الوقت

من السلام السقيم,

و سئمنا الانتظار؛

فاقتبسنا

لأنفسنا

عدوّاً

جامحاً
….

منّا !

على ذمة الربيع

ليست هذه الحرب سوى

بورتريه كاريكاتوري

للسلام الذي كنا نعيشه.

مناهل السهوي «1991 السويداء»

تعمل مناهل في أغلب قصائدها على تشكيل مشهد شعري، فقد أثبتت أن كل شيء في الحياة صالح للشعر حتى الحرب وكلّ مفرداتها، فتحولت القصيدة لديها إلى نتف بسيطة, ومجموعة متوالية من اللقطات الحاذقة والجارحة.

كمدنٍ غابت

يختفون

كأصوات الأطفال

في الحقول البعيدة

كالعشب الزاحف

في ممرات التراب..

يختفون

نواقيس يابسة

في صقيع الكنائس،
ي

باركون ثمرات بطونهم

ليولد شكّي من جديد..

يختفون

رُسُلٌ مرّوا من أرضنا

كمدن غابت

وهي تزرع الشجر

يختفون

برويّة الصياد يرفع صنارته

كيلا يفلت الحزن

المعلّق من بلعومه..

يختفون

وهم يلحسون أجسادنا

متأوهين،

يشدّون لحمنا

كحبال المراسي

تعتصر الملوحة القديمة..

يختفون

كأناشيد القبائل

تنتظر الريح

تهزّ الخيم البنية

لتلتمس الرعشات

يختفون

كعظمة

دفنها كلب عجوز

في التراب القديم

ونسي في أي بقعة خبأها

فمات جوعاً

وحيدا كما كان.

عبير نصر «1980 اللاذقية»

يعمل صوت عبير الشعري على كسر المألوف, والتحرر من الممنوعات والمحرمات. ثمة جرأة في التعبير عن الداخل الأنثوي الذي طالما بقي محظوراً لزمن قريب جداً، وجرأة موازية في التعبير عن التجربة التي هي بالنتيجة تجربة تخصّ كلّ امرأة بصور مدهشة ولغة ملفتة.

قبلة

لا تجزعْ من امرأةٍ تقول: سأقتلكَ بقُبلة

قدّمْ لها الفمَ أضحيةً

واسفحْ ملحَ الرغبة قربان الغرق

قبل أن تحفرَ، بين الشفتين، قبرك

وبصبر لصّ حكيم

ترقّبْ دوخانَها حين يربكك كأسُ احتراقها

كفراشةٍ تُداعب قنديلاً

وبطمأنينةِ الموت ولا طوق نجاة، سلّمْ أمرك

لا تخفْ، فقط سيستغرقك حياةٌ بأكملها لتنجو من قبلة أولى

واجعلْ موتك عمراً احتياطياً

لا بدّ يلزمك في القُبلة التالية

صدقني إذا ما قلتُ

لا تجزع من امرأةٍ تقول: سأقتلكَ بقُبلة

لا تهبُ امرأةٌ رجلاً أغلى ما لديها

وتسفحُ ريقَها خابيةَ عسلٍ على فمه

إلاّ ليحلى الكرزُ بين شفتيه

فتكافئَ

نفسها

به.

راما وهبة «1985 حلب»

تكتب راما نصاً شعرياً قاسياً تجريدياً متمرداً على التابوات، لكنه نصّ بكر، نصّ لا توارب فيه راما الحياة، بل تواجهها مستخدمة مراياها الخاصة، فترتاد بذلك مناطق جديدة حيث يتأسس خطابها الشعريّ على كثرة الإحالات، وتوالي الإشارات المعرفية الكثيرة، وتشابك الثقافات في النص الشعريّ.

في الرابعة فجراً

أشعر بأنّ من حقي تماماً ألّا أفكر بشيء آخر

سوى صوت سارة فوغان

وهي تتعرق

كامرأة ترضع الألم بجسدها كلّه

وتعري لحمها الزنجي إلى صرخة بيضاء

يشغلني صدع صغير في صحن من البورسلين

قد يحسبه غيري سبباً كافياً لرميه بعيداً

إلا أنني أعلم بأن النقص المستمر في الأشياء

هو كلّ ما يجعلها تتسع للمجهول والعدل والهشاشة

وحين أضع رأسي على أرضية المطبخ

لأجد قاعاً أملس للفراغ

أتذكر بحث المتصوفة عن طمأنينة الرخام

ربما لو كنت إلى جانبي الآن

لرميتُ أشياء كثيرة أوّلها الزمن

ولعرفت كيف يكون الاقتراب مفتوحاً على طعم الليل

واللمس خفيفاً كالتوبة

إلا أنني في الرابعة فجراً

وكلّ ما أحاول فعله ألّا أفكر بشيء آخر

سوى صوت سارة فوغان

وهو يزول

مع الأشياء جميعها.

توصيف غير مكتمل

نحن إذن أمام شعرية أخذت تتبلور، ولم يعدْ بالإمكان أن ندير لها ظهرنا، أهم مميزاتها إعادة الاعتبار لشعرية السرد، ما يجعل القصيدة الجديدة مناوئة لاستقرار الأجناس وثباتها، ووضوح حدودها. فنحن ببساطة أمام الانتقال من شعرية الجملة إلى شعرية النصّ، حيثُ لم تعد اللغة شعرية في حدّ ذاتها (بل أصبحت الشعرية مبنية في جسد النص) لاعبر توثين اللغة ورفعها إلى المطلق، ولا عبر الانزياح عن المرجع، بل من خلال التركيز على شعرية السرد المتكئة على الاختيار بين الممكنات، واللعب مع الزمن السرديّ والاستعارة والمفارقة والتوقيع.

الشعر الجديد في سوريا يحوطه فضاء واسع من الحرية. ظاهرة تتسع لنماذج عديدة، لا يمكن اختصارها في نموذج واحد، وليس هناك قوانين يمكن للشعر الجديد أن يجعل منها قلاعاً في مواجهة خصومه، وليس هناك تأريخ إبداعيّ يهب الأمان الكاذب لشاعرات هذه الموجة اللواتي يقفن في العراء، لايحميهن سوى نصوصهن في مواجهة عالم متخم بالخراب.