الشعر الذي دلّ القصيدة على معنى الكرامة

349

رياض النعماني/

العجيب ، أو العجائبي، هو بعض مما كون الشاعر مظفر النواب وتكون به.. فهو ليس فقط كتب شعراً بلهجة ستسهم في خلق وتطوير مدركه الشخصي الذي يلامس به البعيد، الكوني، بل إنه كتب بلهجة مختلفة ظلت تسكن مجهولاً يصعب اختراق طبقات تكويناته المتراكبة ، محولاً إياها -كالمهيمن على أسرارها وخفاياها-، إلى لغة أخرى أشد عمقاً وعلواً، برائحة ونكهة وقوى عناصر لغوية وبيئية غريبة تماماً.
فاللغة عند مظفر لم تأت ناقلة أو حاملة لمشاعر، أو حالة معينة، بل إنها تتقدم نحو الحياة الشعرية الجديدة بحياة كاملة، فعندما يتحدث عن اللحظة الحسية يضع بين يدينا وذائقتنا كل مفاتن وحرارة وشهقات وغنج وعطور وهمس هذه اللحظة، وبلغة تخرج عن السياق المألوف، فهي تسيل متحررة كهذه اللحظة من محددات الوزن، حيث تنتشر كورد جسد الأنثى في جميع جهات النشوة الفاغمة:
( أجوتلك مخدتي وأنطر الشباج ايجيبك .. وانت عرس الليل والقداح .. يا هلبت تجي وترتاج،
واجيسك عود اجيسك بالحلم تاخذني زخة لوم..)
الأعالي .. الأعالي، في كل شيء، هي وجهة قصائدة، حتى يضطر كي يصلها إلى إطلاق صرخة مدوية:
( هذوله احنا سرجنا الدم على اصهيل الشكر يسعود…. خلينا
زهر النجوم من جدح الحوافر سود) …. إلى أن يقول
(وياخذنا الرسن للشمس من زود الفرح ونزود)
هذا النوع من الخطاب الشعري يدل الكتابة إلى كرامة شخصية – شعرية لا تكون إلا بهذا الموقف والتوجه،
تتواصل الصرخة نحو الأقاصي:
( حمد يالمزكتوا سرجه،
حمد بالليل البعيد والمهرة الحليبية)
وهو بهذا يقدم لنا مفهوماً جديداً لخطاب شعري تتوحد فيه حرارة واندفاع أعالي ذروة اللحظة الحسية بأعالي واندفاع اللحظة الشعورية الفكرية:
(ولن صاحبنا المعكل يسوك الغيم، ذيل حصانه المحومر كصيبة شمس…)
(واميتك لذتي.. وفوك التبرزل طعم)
(حسك عضاني امن اشفافي … ).
إن استقصاء وكشف مفاهيم ودلالات لحظات مظفر الكتابية هذه، التي حولها الى زمن شعري كامل تحتاج إلى فضاء آخر لا تتيحه متابعة صحفية كهذه. اكتفي هنا بهذه الإشارات السريعة لنص مظفر العامي.. أما الفصيح فمكانه آخر أيضاً.
بعض تجليات العجائبي في منجز مظفر النواب الشعري، أنه مشروع مفتوح على سواحل مدن ومستقبل القصيدة الشعرية، فهو كالبرق انفجر في سماء شرق الكتابة الإبداعية، فوحد الجهات في نار النص الذي بدأه دون مرجعيات كتابية كافية… فالسياب الخلاق، المغيّر، بدأ قصيدته وحوله حاضنة إبداعية هائلة (الشعر العربي والأجنبي)، فكان مشروع انعطافة في الشعر العربي.
أما مظفر، فكان في رأيي نهضة شعرية لأنه بدأ من نفسه، من أوليات نصه العامي المفتوح على صعود الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي لمرحلة خمسينيات القرن الماضي، مرفوعاً على موهبة فريدة تتوهج في الفن التشكيلي والغناء والمسرح والأوبرا، فمظفر كان من المفترض أن يسافر إلى روسيا لدراسة الأوبرا في موسكو، إلا أن انقلاب شباط الأسود سنة ١٩٦٣ قطع عليه ذلك. لكن مظفراً لم ينقطع عن الغناء الذي ظل يشعل ويوسع ليل سجن نقرة السلمان الصحراوي الموحش بمصابيح صوته الذي أنهك محاولات القتلة في إخماد روح الثوار المعتقلين، واستمر في إرشادهم الى جوهر قوتهم الداخلية الإنسانية المقاومة، وكرامتهم التي انتشرت في حركة وطريق شعره الذي منحنا ذخائر إبداعية لن تموت، أذكر -على سبيل المثال لا الحصر- قصائد:
( عشاير سعود، غيلان ازيرج، صويحب، ابن ديرتنا حمد، حسن الشموس، حرز, على كد البريسم، حجام البريس).