القارئ المغدور

866

وارد بدر السالم/

سنشتق مصطلح “القارئ المغدور” بناءً على توصيفات نقدية أنتجتها رؤى ما بعد الحداثة في شقها النقدي الذي حاول أن يكوّن صورة شاملة عن علاقة القارئ بالنص وعلاقة النص بالقارئ ومدى تفاعلهما في الإنتاج الإبداعي سرداً وشعراً وفناً وجمالياتٍ مختلفة، وهذا موضوع لا يثير الإلتباس كثيراً لسهولة رصده ومتابعته وبيان مساراته .
(1)
فالقارئ هو الحلقة الأكثر تفاعلاً مع النص والأكثر تماسّاً مع الخيال الآخر المنتَج في النص، ومن البديهي أن يرتبك النص من دون وجود قارئ مهما كانت ثقافة هذا القارئ ووعيه واستنتاجاته ودرجة استيعابه للنص سرداً وشعراً وفناً. لذلك درجت الأدبيات في مختلف مراحلها وتكويناتها أن تنظر لهذا الطيف الغامض نظرة خاصة كانت تشير دائماً إلى أنه الجسر الرابط بين المؤلف والنص، أو الجسر المفتوح لعلاقة (ربما مجهولة) بين المؤلف والنص؛ غير أن النقد الحديث، بشيوع مدارسه ومناهجه وآرائه واقتحاماته النقدية والجمالية لعوالم القراءة وآلياتها وما يتعلق بها من هوامش أو متون، استطاعت أن تصل إلى مضامين كثيرة تربط النص بقارئه أو توازن ما بين القارئ والنص المنتَج في ظرفه وسياقاته الإبداعية من دون أن تتخلى عن الصلة الوثيقة التي تجمع الاثنين، بل تحاول جاهدة في تنظيراتها أن تُبقي على مثل هذه العلاقة قائمة لأنها تقع على ضفتي جسر سردي أو شعري.
(2)
في كل هذا أخذت السرديات حصتها الواضحة من هذا السياقات في التلقي العام، وباتت الرواية في سبيل المثال إحدى أهم ركائز التنظير النقدي في متوالياته الكثيرة شرقاً وغرباً حتى استحوذت على المشهد النقدي العالمي برمته، ووسّعت من دوائر الاهتمام بها بشكل واضح فانتظمت الكثير من السرديات النقدية حول هذا المحور الإبداعي، وبات القارئ أحد أهم القراءات النقدية التي طالعناها وما زلنا نطالعها في أبجديات نظريات التلقي النقدي العامة.
وفي مثل هذه النظريات التي تختص بجماليات القراءات عند القارئ أمكن إحصاء أنواع كثيرة من هذا القارئ يمكن لأي متبصر في القراءة أن يحصيها ويستولدها أيضاً كمعطيات نقدية ممكنة؛ فهنالك القارئ المنتج، والفاعل، والمؤثر، والمحايد، والناقد، والمشارك، والمؤلف الضمني، والمتأمل، والعابر، والإستهلاكي .. وغيرها من التوصيفات التي من خلالها يمكن استشفاف “نوع” القارئ في العمل الإبداعي الأدبي.
(3)
نظريات التلقي غفلت عن ذكر نوع آخر من القرّاء، أو ربما لم يكن شائعاً، وهو القارئ المغدور؛ وهذا النوع القرائي هو من اجتراحاتنا الشخصية الذي اكتشفناه بعد شيوع الجوائز الأدبية التي (أنتجت) مثل هذا القارئ الكسول في عالم الرواية على وجه التحديد. بفكرة عامة أن الرواية أصبحت فعلاً سيدة العصر وسيدة الفنون الإبداعية متجاوزة الكثير مما يحيط بها من جماليات سردية وشعرية وفنية أخرى لذلك صارت قِبلة للقراء والقرّاء في شرق الكتابة وغربها. وعلى هذا تم استحداث عدد من الجوائز الأدبية السردية في الوطن العربي التي وفرت أجواء مناسبة في ظاهرها لإشاعة ثقافة التنافس وتشجيع السرديين المحترفين والهواة وخلق حالة من حالات التواصل الإبداعي الموسمي وتثوير الطاقات الأدبية في منحاها السردي وباتت الجوائز العربية معروفة في سرديات التنافس وأهمها: بوكر الإماراتية وكتارا القطرية اللتان كرّستا شيوع القارئ المغدور أو الكسول من حيث لا تقصدان!
(4)
كيف حدث ذلك؟
القارئ المغدور هو القارئ الموسمي الذي غدرته جوائز تلك المسابقات فسعى إليها تاركاً حقلاً كبيراً من سنابل السرد الطافحة بالإبداع والفن وروح التمرد على ثوابت قبيلة الرواية الكلاسيكية وهي الروايات التي لا علاقة لها بالجوائز ولا التسابق المرهق. ليكون هذا القارئ انتاجاً هامشياً على شرف الفائزين في كل موسم يزيد من رصيد الناشرين المالي لا غير، فهو القارئ الباحث عن صخب الجوائز وفائزيها واللاهث وراء الروايات الفائزة في حسابات ليست نقدية ولا فنية سوى الركض وراء الضجيج الإعلاني الذي نسهم به جميعاً بقصد أو من دون قصد.
(5)
هذا النوع من القارئ لا يعوّل عليه كثيراً، فهو مناسباتي؛ موسمي؛ جوائزي؛ دعائي، إعلاني، غير موثوق به، غافل، مستغفَل، كسول، انفعالي، انتقائي، سالب، وغيرها من الصفات التي يمكن استنتاجها بسهولة وهي استنتاجات ليست ملزمة لأحد، لكنها واقعة بالفعل ولها أسبابها بطبيعة الحال.
(6)
هذا لا يعني الشك بالروايات التي تتصدر قوائم المبيعات بوصفها فائزة، لكن ثمة معايير جديدة استجدّت مع هذه الجوائز حينما خلقت معها مثل هذا النوع من القراءة الكسولة التي تتأثر بموسمية الجوائز وتخلق لها وهماً عن جودة الفوز من دون النظر الى كم هائل من روايات عربية لم تفز أو لم تشترك أصلا في هذا التنافس الماراثوني المتعب. وبذلك يقع مثل هذا القارئ (ضحية) أوهام الفوز في قراءات ليست أصيلة بالنتيجة، ففوز رواية واحدة لا يلغي روايات كثيرة وكبيرة بفنيتها ورقيها السردي وبالتالي سنخسر قارئاً هو نتيجة لتلك الصراعات السردية التي تتوخى خلق جو سردي تنافسي من دون أن تعني إيجاد قارئ كسول اسميه ببساطة: القارئ المغدور.. وهذه ما فعلته الجوائز الروائية العربية!