القاص والروائي لؤي حمزة عباس الرعب الذي يعيشه الإنسان اليوم، غير واقعي
حوار أجراه: علي السومري /
لا يمكنك الحديث عن ثقافة مدينة البصرة ومثقفيها دون ذكره، قاص وروائي وأكاديمي، يُعد اليوم واحداً من الأسماء الثقافية البارزة في العراق والعالم العربي، إنه الأستاذ الدكتور لؤي حمزة عباس، المولود في البصرة عام 1965، الذي نجح في أن يثبت اسمه في خارطة مبدعي العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، كيف لا وهو ابن مدينة أنجبت للعراق كثيراً من الأسماء المهمة في الثقافة العراقية قديماً وحديثاً.
حصل (عباس) على البكالوريوس والماجستير والدكتوراه من جامعة البصرة، وحاز على لقب الأستاذية منها، ويعمل اليوم أستاذاً للدراسات العليا فيها.
أصدر في مجال القصة مجاميع قصصية عدة بينها (على دراجة في الليل)، و(العبيـد)، و(ملاعبة الخيــــول)، و(إغماض العينين)، و(حامل المظلّة)، و(قرب شجرة عالية)، و(مرويات الذئب)، و(خيالات قصصية)، أما في الرواية فأصدر (الفريسة)، و(كتاب المراحيض)، و(صداقة النمر)، و(مدينة الصور)، و(حقائق الحياة الصغيرة)، فضلاً عن دراسات وكتب عدة مثل (المكان العراقي/ جدل الكتابة والتجربة)، و(بلاغة التزوير)، و(سرد الأمثال)، و(سلوان السرد)، و(الكتابة، إنقاذ اللغة من الغرق)، و(كتاب الصور، مرويات عراقية) بمشاركة الفنان (ياسين وامي)، و(حياة تتهدد) بمشاركة الشاعر (عبد الزهرة زكي).
ومن أجل تسليط الضوء على منجزه الثقافي ومواقفه أجرينا معه هذا الحوار، حوار ابتدأناه بسؤال:
•أنت واحد من الأسماء الفاعلة في السردية العراقية، كيف ترى مشهد السرد العراقي اليوم؟
•ترك اختلال المشهد السياسي في العراق آثاره على مجمل أنشطة الحياة، المؤسسية منها وغير المؤسسية، وقد عانى تبعات التأثير المشهدان الإبداعي والثقافي بالنظر لحاجة الثقافة لما ينظّم فاعليتها ويوجّه حضورها ضمن المجال العام، على الرغم من كون العمل الإبداعي فردياً في جوهره، ثمة توجّه شبه عام لانشغال السرد بتأمل الخلل وتأثيراته في المجتمع، ورصد التغيرات الكبرى التي ما زالت بحاجة للرصد والمعاينة، وهناك من أصحاب المشاريع السردية، وأظنني منهم، مَنْ اختار مغادرة الراهن وتوجَّه للبحث في المناطق البعيدة نسبياً للوقوف على طبيعة الخلل وكشف الأصل فيه، فما نشهده من ارتباك في وضعنا العام، وغياب المنطق أحياناً، ليس وليد اللحظة الراهنة، أو نتيجة من نتائج ما بعد 2003 فحسب، ذلك، بتصوري، قمة جبل الجليد العائم الذي ظل كثير منه غائباً تحت الأمواج المتلاطمة، والسرد عموماً ينشغل بما خفي من الظواهر ووقائع التاريخ في سعيه لتحقيق معرفته التي يشكّل الإنسان مركزها.
•هل يمكننا القول بعالمية السرد العراقي، بعد الذي شهدناه من ترجمات للأدب العراقي ومنها مجموعتك (إغماض العينين) الحائزة على جائزة الترجمة (NEA) عام 2010؟
•هل يكفي الأدب العراقي حصوله على جائزة مهما كانت، أو ترجمة بعض أعماله القصصية والروائية والشعرية ليحقق عالميته؟ للعالمية شأن آخر، وهي تنبع من داخل الأدب لا من خارجه، وأول خصائصها تتمثل في الإنصات العميق للتجربة الإنسانية ببعدها المحلي، ذلك لا يعني أن نغادر ما حققه السرد العراقي طوال عقود ونعود بالكتابة للواقعية الصرفة ومنجزها الرسالي، لكن التجربة المحلية تظل مركزية في الانجاز السردي، مهما ذهب في طرق التجريب الفني وخاض من مغامرة التجديد اللغوي. إن الجائزة والترجمة مؤشران مهمان لا شك لكنهما يظلان بحاجة إلى عوامل أخرى؛ أولها وعي الأدب والسرد خاصة لدوره ووظيفته في المعرفة والجمال.
•من يقرأ لك يرَ بوضوح كيف تحاصرك خيبات عقود من الحروب والدم والموت، برأيك، هل توثيق هذه الكوارث من مهام القاص والروائي؟
•في دورة الخيبات العراقية ما يتّسع للجميع! فكلُّ جيل من أجيال الثقافة العراقية حسب نفسه مركزاً للكوارث وشاهداً أوحد على الخيبات، بإمكاننا مراجعة ما كُتب منذ عشرينيات القرن الماضي لمعاينة القوة التي تحضر (الخيبةُ) فيها في توجيه السرد كما توجّه الحياة نظراً للترابط الفاعل بينهما وتأثير كل منهما في الآخر، وما نحن، أبناء منتصف الستينيات، ببعيدين عن هذا التوصيف، وقد عشنا ذروة شبابنا في حرب الثمانينيات القاهرة، وكان علينا أن نلعب أدواراً بطولية على الجبهات قبل أن نتنفس تجارب الحب الأولى، إنها مفارقة بلا شك، وهي مفارقة سوداء قاتمة أن نجد أنفسنا في خضم أمواج بشرية تمضي نحو حتفها من دون أن يعني موت أحدها شيئاً في معادلة النصر والهزيمة، سيخلّف الموت المجاني في أذهاننا أثراً عاصفاً ليس من السهل أن يزول، وفي الوقت الذي كانت سرديات البطولة تتوالى فيه كتبت قصصي الأولى عن شباب يقتلون بصمت، معظم قصص مجموعتي الأولى (على دراجة في الليل، 1997) اختارت أن تسير في ليل الحرب، على طرقها المنسية، لتكتب عن الجانب المعتم من المأساة، وفي هذه المرحلة أيضاً كتبت المادة الأولى لـ (كتاب المراحيض)، سيرة العدم العراقي، كتابة تولدت عن هاجس الموت العنيف بدافع من قسوة التجربة التي وجدت نفسي مرمياً في خضمها، هاجس الموت العابث وهو يجرّد الحياة من أسمى معانيها ويحيل الإنسان إلى نفاية مرمية في الأرض الحرام، وهو الكتاب الذي لم ينشر إلا بعد مرور عقدين على كتابته، ولم أكن في ذلك أعمل على توثيق الكارثة، لم يكن التوثيق هدفاً أو غايةً إلا بمقدار ما تمثله الكتابةُ عموماً من رصد لأثر الظروف الحياتية في الإنسان، في الحرب كما في سواها.
•في قصصك القصيرة ورواياتك نجد الواقعية الممزوجة بالفنتازيا، هل هي محاولة لقول ما لا يمكن قوله بصورة مباشرة؟
-تحافظ الفنتازيا على موقعها في الحياة بوصفها مظهراً مهماً من مظاهرها وجانباً مؤثراً من جوانبها، معالجة الواقع لا تكتفي بتصويره تصويراً فوتوغرافياً، إنها تجعل منه بذلك متحفاً مكيّف الهواء، سيجد الواقع مع إمكانات الخيال ما يبعث الحياة في وقائعه الصغرى وينتقل بها من صمت المتحف إلى صخب الحوادث المختلفة، الأدب، كما أفهمه، قراءة مركّبة للحياة وترجمة لأحوالها، ولا يمكن سجن الحياة في قفص من الكلمات، لكن بمقدور الأدب فتح النوافذ المغلقة ليطل على الجموع البشرية المنشغلة بأحوالها، السائرة نحو مصائرها، سيجتهد الأدب عند ذاك لالتقاط الملامح وكشف ما تخبئه السرائر، ليكون بمستطاعه تدوين ما يُرى وما لا يُرى، والحديث عما وقع وما لم يقع، وتلك هي المسافة الفاصلة بين الأدب والتاريخ الذي ينشغل بما وقع فحسب، لكن الأدب يكون معنياً بما لم يقع، منفتحاً على الاحتمالات اللانهائية للحياة.
•ولدت في مدينة متخمة بالنفط والفواجع، البصرة الفيحاء، ما الذي منحته هذه المدينة للسارد فيك؟
-في محاورة كورونا مع الأستاذ عبد الزهرة زكي تحدَّثت عن معنى أن تكون ابنا لمدينة تحمل أعباء الماضي، مدينة تاريخية كما توصف، والبصرة تحمل عبء الماضي وهي تسحب ظلالاً زمنية كثيفة، لكثير من الوقائع التاريخية الفاصلة والشخصيات العظيمة التي ما تزال شاخصة في حاضرنا العربي والإنساني، الحسن البصري والجاحظ وإخوان الصفا والحريري صاحب المقامات حتى بدر شاكر السياب ومحمود البريكان، في أوقات متباعدة كانت قدماي تقودانني لمقبرتها، مقبرة الحسن البصري في الزبير، فأجدني في قلب الماضي بوصفه واقعة يوماة تمنح المدينة حضوراً مضافاً يؤكد فرادتها ويثقل خطوها في الزمان. المدن التي لا تاريخ لها أكثر حرية في مواجهة الحياة، في فهمها والتعامل معها، إنها تحيي تجاربها بلا أعباء، بإمكانها أن تخوض في البحر أو تذهب، على سبيل التغيير، في رحلة جبلية، لكن مدناً مثل البصرة وبغداد والقاهرة والإسكندرية ودمشق وسواها تمارس فعلاً آخر من أفعال الحرية، إنها تنظر عميقا في جوهر الحياة، حيث الكلمة نبض والمعنى صوت يضيء الوجود.
•يقال بأن للعزلة فوائدَ ومضارَّ، كيف أثرت العزلة التي فرضتها جائحة كورونا بك، وهل أثمرت شيئاً؟
-منحني الحَجْر المترتب على الجائحة، فرصة مراقبة عاداتي اليوماة وهي تتزحزح عن صرامتها وتتعرّض للتهشيم، وذلك، كما أظن، حال كثير من البشر في أغلب دول العالم التي وجدت أنفسها بمواجهة تهديد غير مسبوق، وإلى حد ما غير مفهوم أيضاً، التهديد والمشاركة كانا محور اهتمامي طوال أيام الحجر، من دون أن يغيب عن ذهني سؤال مُلحّ: هل كان الإنسان، صاحب الخيال الخلاق، قد تخيّل أن يأتي يوم تتحوّل فيه خيالاته الدستوبية إلى واقع ملموس، يصبح التهديد فيه قريباً إلى درجة مريعة؟
بتصوري أنَّ كثيراً من الرعب الذي يعيشه الإنسان اليوم، متخيّل، أو هو نتاج استيهامات زرعتها في دواخله قرون من نشاط الخيال، نسبة محدودة من التهديد، فيما أظن، حقيقية وواقعية، والنسبة الأعظم متخيّلة، يكفينا أن ينبثق الفيروس من بلاد مثل الصين، دخلت القرن الحادي والعشرين بوصفها محرّكاً من محرّكات العصر وطاقاته الصناعية الكبرى، من دون أن تتخفّف من انفصالها عن العالم أو تخلع عنها رداء الأسطورة والخيال الذي ألبستها إياه ثقافات باقي الأمم، وذلك جانب أساسي في الإبهام والبلبلة المصاحبين للفيروس، إنَّ المسافة الفاصلة بين الصين وسواها من دول العالم، شرقية وغربية؛ إذا ما تجاوزنا النديّة السياسية، ما زالت مشحونة بالدلالة نفسها، النأي والمشقة، تُسهم في ذلك الثقافة الصينية ومحمولاتها، الشكل واللغة والعادات، بما فيها عادات الطعام وهي أقرب ما تكون إلى موضوع حوارنا، من دون أن يغيب عن أذهاننا الاستثمار الآيديولوجي للوباء وقد سُمّي (الفيروس الصيني)، بما تفرضه المواجهة والتناحر بين الدول الكبرى، أضف إلى ذلك شعور التهديد بوصفه نتاج خيال مشبع بسرود النهايات، الدينية منها والدنيوية، بما حتّم علينا للمرّة الأولى في عمر البشرية، كما اتصوّر، المشاركة في البلاء.
•كتبت عن اليأس وقوته، وأن الاستسلام للأمل الخادع جريمة بحق أنفسنا وأبنائنا، وهي كتابة مغايرة بأن اليأس لا يؤدي إلا إلى الانهزام والاندحار، برأيك، كيف يمكننا استثمار اليأس لننجو؟
-اليأس، في تصوري، وقد كتبته في بيان أسميته (قوة اليأس، 2018)، ثمرة المعرفة والتأمل، وقرين الوعي، يُعيد للعقل رزانته، ويمثل فرصة لمراجعة المواقف ومعاينة الأخطاء، والبدء بدراسة خطط الإنقاذ ومقترحاته الممكنة، بعيداً عن الآمال البلهاء.
اليأس الذي نؤمن به ليس بالتشاؤم ولا الإحباط ولا هو إنكار للحياة أو ثمرة من ثمار العدم. ليس انتكاسة نفسية أو موضة فكرية عارضة، أو ملهاة ساخرة، وهو ليس يأساً فلسفياً محضاً، اليأس الفلسفي المحض مكانه الكتب والمكاتب المغلقة على حوارات (المثقفين)، وليس روح الإنسان وعقله وهو يرى الخراب ويعيش وقائعه كلَّ يوم. اليأس الذي أتحدث عنه، شرط من شروط الإبداع الإنساني، روحه وجوهره. لنفكر بأعظم البُناة في تاريخ البشرية، الذين لم يكذبوا على أنفسهم للقبول بما وجدوا، ولم يرضخوا لزيف الأمل، بل أخذهم يأسهم لمواجهة ذواتهم ومحيطهم، وسلكوا المستحيل من أجل الوصول بالحياة إلى ضفة جديدة.
يأسنا حصيلة نظر عقلي لخراب حياتنا بمسبباته الفادحة، وهو رفض لكل أمل يطيل أمد الكارثة. “قوة اليأس”، لا تتقاطع مع العزيمة ولا تنفيها، بل هي ضد تبجيل الأمل الفارغ، تحضّ على التغيير المستمر، وتحطيم القبول باللحظة العراقية العاثرة المعيشة، تحارب المعاني المائعة والمقولات الفارغة للديمقراطية المزيفة، ضد محو إنسانيتنا ومحو أحلامنا، ضد الأثر المخدّر الذي تسببه الكليشيهات الطنانة والحماسية للأحزاب الحاكمة والمؤسسات المرتبطة بها وللأفراد المنتفعين منها.
علينا أن نتحلّى بقوّة اليائسين، وصلابتهم، وعمق بصائرهم، ونُفهم أنفسنا، بصراحة ووضوح، أن الحياة في العراق بلغت حدّاً لا يمكن أن توصف معه إلا بكونها “ليست جديرة بالحياة”. وقد رأيت في “قوة اليأس”، أول الخلاص مما نحن فيه، يأس يمكن أن يقودنا لرفض صريح لما جرى ويجري، وعدم القبول بالمشاركة فيه بأي طريقة كانت، بالقوة نفسها التي نرفض فيها الأمل المخادع براهن الحياة العراقية وسبل ترميمه وإدامة الحياة في شرايينه التي سد الفساد مساراتها. لا مسوّغ للخوف والسكوت على من تصدّى لإدارة العراق فآثر مكاسبه الشخصية والحزبية، ونهب ثرواته الكبرى، وأودى بحياة أبنائه إلى الكارثة. يمكن الافادة من “قوة اليأس”، بما توفره من إمكانات هائلة، في إعادة الاعتبار للعراقي المغلوب على أمره، المقهور، والمسلوب الإرادة.