الكاريكاتير.. سلاح الجماهير ورعب السّاسة الدائم!

678

استطلاع أجراه: علي السومري /

غالباً ما يعرَّف فن الكاريكاتير على انه “احد فنون الرسم الساخرة، التي تميل الى المبالغة في تحريف الملامح الطبيعية في شخص ما أو جسم ما”، لكن أهم وظائفه تكمن في تسليطه الضوء على مشاكل عدة: اجتماعية، وثقافية، وسياسية، عبر ما يتناوله من موضوعات حساسة تثير القراء في الصحف وتشير إلى مكامن خلل ما في الظواهر الاجتماعية.
لكن خطورته تكمن عند تناوله الشأن السياسي بسخريته اللاذعة وتهكمه على الدول الديكتاتورية والدول التي تدّعي الديمقراطية، مخاطر تصل إلى منع نشر الرسومات في الصحف والمجلات ومنع الفنانين من العمل وطردهم!
ومن أجل معرفة خبايا هذا الفن وما يواجهه مبدعوه في العراق، أجرينا هذا الاستطلاع مع نخبة منهم لمعرفة تأثير هذا الفن في المجتمع وقدرته على تشخيص مواطن الخلل فيه.
الانتماء إلى الشعب
في معرض إجابته على سؤال مفاده “هل ما زال الكاريكاتير السياسي مؤثراً في المجتمعات، وداعماً لتطلعاتها، أم أنه أصبح سلاحاً في أيدي الساسة المتخاصمين؟”
يقول الفنان (علي المندلاوي): “أبدأ من الفقرة الأخيرة من السؤال، وفيما يخص الكاريكاتير العراقي أنموذجاً، فأجيب بأني عبر ما ينشر من كاريكاتير على النت، ولاسيما في (الفيسبوك) الذي يكاد يكون المنصة المفضلة لرسامي الكاريكاتير العراقيين، أجد أن الأكثر حضوراً في النشر هم الفنانون خضير الحميري، وبسام فرج، ورائد نوري، وعادل صبري، وعامر الجازي، وسلمان عبد، ومنصور البكري، وقد أكون أنا من ضمنهم.” موضحاً أن أياً من هؤلاء لا ينتمي الى أي من الفرق السياسية المتخاصمة، بل ينتمون إلى شعبهم العراقي، وأن كلاً منهم يشكل وحده صوتاً وحزباً وتياراً وكتلة متراصة ترفع لواء الشفافية، وتترافع عن حقوق الشعب المغلوب على أمره، وعن تطلعاته بكل ما يستطيع بسلاح الكاريكاتير، مضيفاً: “وهو حتماً سلاح فعال ومؤثر”.
أما الفنان (خضير الحميري) فقال رداً على هذا السؤال: “الكاريكاتير كان ومازال وسيظل مؤثراً، لأنه وسيلة تعبير فيها بلاغة بصرية وحس شعبي، يمكنانه من الوصول إلى الناس بسهولة، وما يحصل لدينا من إقصاء متعمد لهذا الفن لا يصح القياس عليه”.
سلاح السخرية
الفنان (علاء كاظم عبد) أوضح في إجابته أن الكاريكاتير فن لجميع شرائح المجتمع، لأنه فن الطبقة الكادحة بمواجهه الطبقتين الأرستقراطية والرأسمالية السياسية، وهو يمثل المهمشين وصوت الحق وهاجس الثورة وروح التغيير، وأن الكرَّ والفرّ سيستمران بينه وبين ناشرين يمثلون صحفاً ووكالات صحفية تحمل في العادة آيديولوجية حزبية سلطوية، كما أن فنان الكاريكاتير، الذي ولدت أعماله من رحم الأزمات التي تعصف بالبلاد بسبب مغامرات بعض الساسة، لا تنسجم تلك الأعمال مع توجهاتهم، مضيفاً أن: “رسام الكاريكاتير فنان يبلور فكره الساخر لجدلية اجتماعية أو سياسية، في منجز فني قد لا ينسجم مع آيديولوجية السلطة أو الأحزاب المؤثرة في المشهدين السياسي والاجتماعي.” مشيراً إلى أن غياب القانون الذي يحمي حق التعبير عن الرأي، أو الإرادة الصادقة لتطبيقه، دفع كثيراً من الفنانين إلى الانزواء بعيداً عن الساحة الفنية، والاكتفاء برسوم لا تمثل الهاجس العام والحاجة الملحّة لتكوين وتشكيل فكر واعٍ يقود الجماهير، موضحاً “أنه في بعض الأحيان قد يخضع بعضهم لتلك الجهات المشبوهة، تحت ضربات الوضع الاقتصادي القاسية، وعدم القدرة على المجابهة وانعدام المؤسسات المستقلة التي تحتضن هذا النوع من الفنون”.
في حين يذكر الكاتب (جابر حجاب) المهتم بمجال الفن: يُعرّف إبراهام مولز فن الكاريكاتير بقوله “هو صورة الصراع، ولاسيما السياسي منه، وهو فن مشاغب، يجرح ولا يُدمي، يوقظ ولا يقتل.” يطول الحديث عن فن الكاريكاتير وعن الأسماء المشتغلة فيه، ولاسيما في الجانب السياسي، إذ إنه الجانب الأكبر اشتغالاً فيه، ومن شدة التلازم بينهما نجزم أن الكاريكاتير لم يخلق إلا ليكون فناً معارضاً للسياسة، وأحد أشكال (المقاومة بالضحك) ومن هذا المنطلق ما زال الكاريكاتير مؤثراً في الجماهير والمجتمع.
كشف الفساد
إن قدرة الكاريكاتير في اختزاله لفكرة ما وتشخيصه عيوب السياسة، جعلته في مرمى الساسة الناقمين على الحريات، وبات أحد كوابيسهم التي يخشونها عند تصفحهم للصحف والمجلات أو وكالات الأنباء، لهذا يعمد كثير منهم إلى منع رسوم الكاريكاتير في الصحف التي يمولونها، خشية تأليب الجماهير عليهم وعلى حكوماتهم.
عن هذا الخوف يقول الفنان علي المندلاوي: “جزء مهم من الجواب يكمن في السؤال! فخوف الساسة من الكاريكاتير، سياسياً كان أم غيره، نابع من قدرته على كشف عوراتهم في اللحظة التي يسلط فيها الضوء على الفساد، وسوء الخدمات، والمحسوبيات، والنهب، والتخبط، وسلب الحريات، والقمع، وغيرها، في رسوم كاريكاتيرية أخّاذة يتزاحم عليها الناس عامة، وبلغة ظريفة وواضحة للجميع ومحببة لهم” مضيفاً: “وقد لا يصل منع النشر إلى صحفهم فقط، بل يمتد إلى صحف ومجلات الدولة، والأخطر إشاعة الرعب بالسلاح المنفلت لمنع الفنانين من النشر في أية وسيلة نشر ومنها مواقع التواصل الاجتماعي!”
أما الفنان خضير الحميري فيجيب عن سؤال خوف الساسة من الكاريكاتير، بقوله: “السياسي يتخوف من أي نوع من أنواع النقد يمكن أن يحط من هيبته المصطنعة، لذلك فإن اللغة التهكمية التي ينطوي عليها الكاريكاتير تصريحاً وتلميحاً، هي الأكثر قدرة على تعرية ذلك الديكور المتهالك”.
بلاغة الرسم
في حين يوضح الفنان علاء كاظم عبد: “سيبقى فن الكاريكاتير فناَ نقياً كما هو الحال على مدى التاريخ الحديث، فهو فن الأزمة وتأثيره أكبر من ألف كلمة، ولا يحتاج لغة لفهمه، ولأنه فن عالمي لا يمكن تحجيمه أو ضمه تحت جناح سلطة أو حزب، فلطالما مَثل الكاريكاتير فكراً ساخراً ثورياً في مواجهة الظلم والظلاميين، معرياً ازدواجيتهم، ممزقاً خيوط فكرهم الواهنة عبر التنوير والثقافة والثورة في بعض الأحيان.” مشيراً إلى أن خوف بعض الناس من فن الكاريكاتير له مبرراته، لأنه فلسفي البنية، ويحمل بعداً ناقداً صورياً سهل الفهم ومؤثراً يفهمه الصغير قبل الكبير.
وفي رده عن هذا السؤال، أجاب الكاتب جابر حجاب: قلت قبل قليل إن الكاريكاتير ما زال مؤثراً في الجماهير والمجتمع، وأضيف هنا: ولاسيما تلك المجتمعات التي تعاني القهر والتسلط السياسي، حتى أن وجوده وانتشاره يعدان مقياسين للحريات العامة، ولهذا تخشاه الحكومات ذات الميول الدكتاتورية المتسلطة، واستحضر هنا قول الباحث الصربي (ماجيكن سورنسن): “السخرية السياسية سلاح يعمل بشكل سري ومتدرج وخفي حتى يكون السقوط ممكنا.” موضحاً أن الطبيعة الصورية لعمل الكاريكاتير تجعله أكثر قرباً من الجماهير، وفي كثير من الأحيان تكون الصورة أبلغ من النص المكتوب وأكثر تعبيراً وانتشاراً، وأن الأسلوب (الجرافيتي) الحر غالباً ما يكون الأقرب لطريقة تنفيذه، إذ صار يتقدم الفنون الأخرى في ثورات الجماهير وتطلعاتها لما يحمله من روح الدعابة السياسية والطاقة التهكمية العالية، سواء أكان مطبوعاً أم مرسوماً على الجدران. مضيفاً أن: “طبيعته هذه جعلته سلاحاً مزدوجاً يوظف حتى في الخصام السياسي ولمصالح شخصية ضيقة أيضاً، لكنه هنا سيتحول إلى تهريج ليس له تأثير إلا في عقول مُريديه.”
سهولة الوصول
وفي سؤالنا عن مساهمة مواقع التواصل الاجتماعي في انتشار الرسوم الكاريكاتيرية من عدمه، تحدث الفنان علي المندلاوي قائلاً: “حتماً ساهمت تلك المواقع في انتشاره، فهناك ضمور واضح لوجود الصحف المطبوعة في الساحة العراقية، بل إننا لا نكاد نرى مطبوعاً ينشر الكاريكاتير عدا جريدة (المدى)، التي كان يرسم فيها الفنان الراحل بسام فرج المقيم في هنغاريا في النشر على منبرها وفي موقعها وعلى صفحته الشخصية في الفيسبوك، (قبل وفاته في الاسبوع الماضي) – وهنا تعمدت الإشارة إلى مكان إقامته لأهميته من ناحية تأمين سلامته –”، مضيفاً: “ولهذا انتقل نشاطنا جميعاً الى مواقع التواصل الاجتماعي بنحو خاص، إذ يؤمن نشراً فورياً للرسوم وعلاقة مباشرة ومتواصلة بين فناني الكاريكاتير وبين والجمهور العراقي في الداخل وجالياتنا في أبعد نقطة من المعمورة، ناهيك عن المتابعين في العالم العربي، وعالمياً عبر مشاركاتهم في الملتقيات والمهرجانات الدولية”.
رأي الفنان علي المندلاوي طابقه رأي الفنان خضير الحميري بشأن أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في نشر رسوماتهم، مضيفاً أن هذه المواقع: “أخذت الكاريكاتير بعيداً عن تعنت الصحف ومزاجية رؤساء التحرير وتأويلاتهم ومخاوفهم”.
رقابة أمنية
أما الفنان علاء كاظم عبد فتحدث بهذا الشأن قائلاً: “نعم لقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي برفد عالم الكاريكاتير بمواهب عديدة، وإمكانيات كبيرة، لكن تبقى روح المطاولة والإبداع أساس استمرار هذه المواهب.”
في حين أشار الكاتب جابر حجاب في حديثه إلى أن فنون الكاريكاتير أخذت في مطلع الألفية الثالثة الجانب الأوسع في النقد السياسي والاجتماعي، عازياً الفضل في ذلك إلى ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أسهمت في إلغاء المسافات الجغرافية بين الجماهير والشعوب، مضيفاً أن هذه المواقع: “أدّت إلى تقليل دور الرقابة الأمنية العاجزة عن إيقاف هذا السيل الإلكتروني الجارف، الذي كلما زاد تطوره التكنولوجي أخذ فن الكاريكاتير معه.”
سخط الجماهير
“يقال إن أصعب أنواع الرسم هو الكاريكاتير، لأنه مطالب بتسليط الضوء على مشكلة كبيرة في رسمة واحدة!؟” هذا السؤال الأخير هو ما توجهنا به إلى ضيوف استطلاعنا هذا، الفنان علي المندلاوي أجاب بقوله: “كيف يمكن لرسام الكاريكاتير أن يختزل مشكلة كبيرة مثل الفساد في عدة خطوط، وربما بالألوان وبدونها، أو مع تعليق من كلمة أو كلمات عدة، أو بدونهما، بشكل هزلي ساخر وبرسالة نقدية وتحليلية صارمة وواضحة ومفهومة للشخص المتعلم أو الأمي، الصغير والكبير، ويكون مقبولاً لديهم بل يقبل عليه يومياً جمهور يُعد بالآلاف؟ أعتقد من هنا تنبع صعوبة الرسم الكاريكاتيري.”
أما الفنان خضير الحميري فأجاب قائلاً: “لا أعرف إذا كان هو الأصعب، لكنه فن صعب حتماً، ولا ينجح في الإمساك بزمامه سوى قلة ممن يراهنون على إغراء الحقيقة.”
في حين أشار الفنان علاء كاظم عبد إلى أن الكاريكاتير فن محلي يستمد عالميته بتسليطه الضوء على الأزمات العالمية، مضيفاً: “على سبيل المثال نراه ناطقاً يحمل سخرية النص في الجانب المحلي، معبراً باللهجة المحلية عن سخط الجماهير لحدث سياسي أو اجتماعي، أما عالمياً فهو الأسلوب الأصعب، لأنه يعبِّر عن أزمة عالمية بدون نص كما حصل في أزمة كورونا.”
وفي رده على هذا السؤال، قال الكاتب جابر حجاب: “ما زال فنانو الكاريكاتير الحقيقيون قلة في الساحة الفنية العامة، لما يتسم به هذا الفن من صعوبة، لأن ريشته تشبه مبضع الجراح في كشفها لعيوب السياسة وأفعال أساطينها.”