اللهجة الدارجة.. هل هبطت بالذائقة الأدبية؟

539

هند الصفار /

في أمسية أدبية بالقصر الثقافي في البصرة، العام الفائت، كُرِّمت (نهى الحسون) عن روايتها (أساور الفضة)، التي صدرت في جزءين باللهجة الدارجة.
أشعل هذا الاحتفاء، بما يسمى رواية باللهجة الدراجة، جدلاً مستعراً بين الكتّاب والمثقفين ومتذوقي الأدب، بين رافضي هذه الموجة، ومن يجدون فيها محاكاة لحياة الناس ونزولاً من برج الأدب المتعالي.
وفي حين يعتقد النقاد أنه لا ينبغي التخوف من انتشار هذا النوع من الروايات التي تداعب الخيال الشعبي وتعيش واقعه، فإن ثمة من يرفض الإقرار بتسمية ما يكتب باللهجة الدارجة على أنه أدب، ولاسيما أن المخاوف لا تنحصر بحماية لغة القرآن فحسب، بل إنها تلامس الوعي الجمعي وتهبط بمستوى الذائقة بدلاً من أن ترتقي بها.
“الشبكة” حاورت الأطراف المعنية بهذا الجدل، وناقشته من جوانبه المختلفة، وخرجت بهذه الحصيلة من الآراء:
روايات رائجة
بالعودة إلى رواية (نهى حسون) التي تُظهر فقر الكاتبة لغوياً، وعجزها في التعبير عن هواجس وأفكار أبطال روايتها، فيدفعها ذلك للّجوء إلى اللغة الدارجة، فتستغرق كثيراً في الكلام قبل أن تعبر عن فكرتها، ويمكن أن تكتشف ذلك في أي نص من أجزاء هذه “الراوية” المزعومة ، ففي الجزء التاسع والستين من الرواية وفي “البارت 41″، كما أسمته، من الجزء الثاني يدور هذا الحوار :
“شيماء: داسوي الكيك وستوني طلعته من الفرن وبالي مشغول بيت أهل حيدر اليوم يوصلون وكلش خايفة.
عبالك عندي امتحان واخاف أرسب بي، منا بالي يم مريم اليوم النتائج وعقلي يريد يطك من التفكير اجتني سرى وهي تشمشم ريحة الكيك.. ها ماما خلصتي الكيكة.”
يعمل العديد من المواقع على الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل على ترويج مثل هذا النوع من الأعمال التي تسمى جزافا بـ (الروايات) .
وقد ظهرت مجموعات كبيرة استسهلت هذا النوع من الكتابة، واقتحمت عالماً ليس عالمها، لكنها بالطبع شوّهت صورة هذا العالم الجميل، الذي ظل عصياً على هؤلاء التقرب من أسواره العالية المشيدة بحبر أقلام كبيرة.
وتساعد فوضى مواقع التواصل على نمو التفاهة وحصول أصحابها على شهرة واسعة ومتابعين جلُّهم لا يعرفون فكَّ حروف جملة مفيدة.
تقول (تبارك الأسدي): “انا لا أقرأ هذه القصص المزعومة باللهجة الدارجة ولا أتابعها، بل أميل إلى قراءة روايات متنوعة مكتوبة بالفصحى بلغة وإتقان.”
لكن (أم عبوسي) -كما قدمت نفسها- وهي سيدة لم تتمكن من إكمال دراستها الابتدائية مهووسة بهذا النوع من القصص المكتوبة بلغة دارجة أقرب إلى فهمها.
ولأم عبوسي كاتبات مفضلات، لعل (شمس السعدي) في مقدمتهن، ولاسيما أن السعدي تكتب بلغة الناس ومن واقع حياتهم ومشكلاتهم -على حد تعبيرها-.
قرّاء وكتّاب
و(بسمة العبيدي) قارئة تستهويها اللغة الدراجة، لكنها مهتمة أيضاً بالروايات المكتوبة باللغة الفصحى، وتتابع العبيدي كاتبة اسمها (زينب) وأخرى اسمها (ريام هادي).
وتصف العبيدي قصص ريام باللهجة الدارجة بأنها رائعة، والمهم أنها تفهمها لأنها تتحدث بنفس لغتها وتعبر عن أفكارها، لكن العبيدي تستدرك أنه “لا يمكن مقارنة روايات اللغة الدارجة بروائع الأدب المنتج باللغة الفصحى، تلك التي ترتفع بفكر القارئ، ولا تهبط إلى مستواه، كما في الروايات المكتوبة باللهجة الدارجة.”
وفي كل الأحوال فإن هناك جمهوراً لا يستهان به، وإن كان محدود التعليم والثقافة، يتابع الأدب الدارج قصصاً وروايات.
تقول (ثناء إبراهيم) إنها تقرأ الروايات باللهجة الدارجة، لكنها غير مستعدة أن تستبدل كتب وروايات (أحلام مستغانمي) بكتب كاتبات لا يضِفن إلى وعيها فكرة أو هدفاً إنسانياً أو ثقافياً.
وبين متلقي الأدب من تستهويهم الروايات المكتوبة بالفصحى والدارجة معاً، منهم (زينب الدباغ) التي تقرأ لكتّاب الفصحى والدارجة أيضاً، وتتابع الكاتبة (نهى الحسون) وتصف قصصها بالجميلة، ولاسيما قصة (أساور الفضة). تقول: “قصصها جميلة، وبالذات (أساور الفضة) و(تائهة بين أروقة الماضي)، أما بالفصحى فإني أقرأ أيضاً ولا يوجد لدي كاتب محدد.”
والواقع أن انتشار أدب اللغة الدارجة لم يبدأ من العراق، فقد سبقتنا فيه دول عربية كمصر ولبنان، وبين يدي (دينا) الآن رواية مصرية باللهجة الدارجة اسمها (علاقات خطرة)، وتتابع (دينا رياض) كل ما يصدر من قصص وروايات باللهجة المصرية، لكنها ظلت مواظبة على القراءة باللغة الفصحى.
حماية اللغة
ويعد المجمع العلمي العراقي حاميَ اللغة العربية وراعيها في العراق، لكنه يعتقد أن موضوع كتابة الأعمال الأدبية والفنية باللغة الدارجة ليس من مهامه، ولا يرى ضيراً في في انتشارها مثلما انتشر الشعر الشعبي واكتسب قاعدة شعبية عريضة.
ويؤكد رئيسه (الدكتور محمد حسين آل ياسين) أنه بادر بمخاطبة مجلس الوزراء بشأن قانون سلامة اللغة العربية المقر وغير المنفَّذ، رغم سريان مفعوله وكونه لم يلغَ بقانون آخر. وقد استجاب المجلس وأصدر تعميماً بوجوب اعتماد اللغة العربية الفصحى في المخاطبات الرسمية، ووجوب الاعتناء بذلك، ومراعاة التسميات العربية الخالصة في تسمية الدوائر والمؤسسات، ويعتبر المجمع العلمي هو المرجع لتحديد سلامة المسمّيات لغوياً.
محدودية الانتشار
وأشار آل ياسين إلى “أن اللغة الدارجة لغة محترمة، كونها لغة تخاطب، وهي لغة طبيعية كما يسميها (ديسوسير) لأن الفرد ينشأ عليها، والتخاطب بها لا يدخل ضمن قانون سلامة اللغة العربية، فلا دخل له بلغة التخاطب وليس من مهام المجمع التدخل في ذلك، لكن الكتابات، من قصة ورواية، تختلف إن كان مجملها مكتوباً باللهجة الدارجة فهذا لا يجوز . وقد كانت هناك تجارب كثيرة بجعل بعض حوارات العمل الأدبي باللغة الدارجة وهذا ممكن.”
وأوضح رئيس المجمع “أن الأمر ربما يشابه الشعر الشعبي الذي أجيز له الانتشار وأصبح لديه اتحاد خاص به وبكتّابه. لكن الروايات الشعبية، مثل الشعر الشعبي، الذي سيظل محدود الانتشار ويبقى إلى حد كبير مشاعاً محلياً وقليل الانتشار عالمياً، وإذا انتقل فإنه ينتقل غريباً، كما في قصائد المرحوم عريان السيد خلف أو مظفر النواب، فإن قراء دول المغرب العربي لا يفهمون معناه، فهو محدود المساحة والجمهور والمحلية.”
ويرفض آل ياسين تقييد هذا النوع من الإبداع بقوانين “فالأدب باللهجة الدارجة عالم مدهش وإلا فما تفسير كل هذا الاحتفاء بقصائد مظفر النواب جيلاً بعد جيل؟ وهي مكتوبة باللهجة الدارجة (العامية)، حتى أنه استطاع أن يرتفع بها وجعلها لغة إبداع مؤثر.”
الاتحاد مع.. ولكن!
وأظهر رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين (ناجح المعموري) تسامحاً كبيراً بشأن أهمية إتاحة المجال للأدب الشعبي ، على الرغم من أن الاتحاد لم يمنح عضويته لكتّاب اللهجة الدارجة، وثمة انقسامات كبيرة بين أعضائه بشأن هذا الموضوع.
ومع أن المعموري انتقد النظام السابق، الذي سمح للشعراء الشعبيين بالكتابة وإصدار دواوينهم بهدف تمجيده وخدمة
خطابه السياسي، فإنه ينسجم تماماً مع رؤية مصطفى جواد الذي يعد اللهجة الدارجة (العامية) وليدة الفصحى.
ويرفض المعموري ما يقال إن انتشار هذا الأدب يضعف من اللغة الفصحى، مؤكداً أن القرآن والأحاديث النبوية الشريفة هما حاميا اللغة، أما الأدب فهو: فن التعبير ووسيلته.
تلبية لحاجة القارئ
وتعتقد الناقدة (الدكتورة نادية غضبان) “أن شيوع كتابة القصة تعبير عن تلبية لحاجات القراء، فحتى الأن لا يوجد من يخبرنا أن للأدب وظيفة معرفية، بينما يخبرنا كثيرون أن قراءة القصص وظيفتها التسلية، وهو بذلك يسعى لحرماننا من الآثار المترتبة على مناقشة هذا العالم المتخيل على الرغم من أن الأثر النفسي لا يعرف تلك الحدود المصطنعة بين ما هو للتسلية وما هو لدونها.”
وتؤكد “أن القصص ليست ترفاً أو ضياعاً للوقت، فثمة حاجة للاستماع إلى حياة آخرين يشبهوننا، والتلصص على عوالم تحاذي واقعنا وتصنعه، وقد أبرز عصر التكنلوجيا الرقمية، الذي يعتمد على مفهوم السرعة، هذه الحاجة بشكل واضح، ولاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي التي تُشاع فيها اليوم ظاهرة كتابة القصص باللغة المحكية، وتشهد زيادة واستسهالاً في تسمية الكثير بالمؤلفين والكتّاب.”
وترى غضبان “أن جوهر ما يمكن أن نفهمه هو أن الأدب اليوم يسد حاجة متلقٍّ يؤمن بالسرعة ولا يؤمن بفكرة الخلود، فلم تعد الكثير من القصص التي تكتب يؤرقها هاجس الخلود كما كانت أزمنة تشيخوف وموباسان وحتى كارفر.”
لا خوف على اللغة المنتهكة
وتعتقد “أن لا مبرر للقلق على مصير الفن القصصي لأن هذا الفن يرتبط بالحاجة ويرتبط بالحياة، ويغير شكله حسب الحاجة، وطالما عاشت الحكايات الشعبية إلى جانب أخواتها من القصص الحديثة، لا بل تميزت الحكاية الشعبية، التي حملت لغاتها المحكية، بقدرتها على الوجود والاستمرار.
أما على مستوى اللغة، فإن اللغة العربية تنتهك يومياً عشرات المرات في وسائل الإعلام المؤثرة بشكل خطير على سلامة اللغة وفهمها.”
مشكلة عربية
فيما يقول (الدكتور تحسين رزاق عزيز)، الذي ترجم العديد من الكتب اللغوية والروايات والقصص من الروسية إلى العربية: “إن الثقافة الروسية لا تعاني من مفهوم اللغة الدارجة أو الفصحى، ففي اللغة الروسية لا توجد فصحى وعامية، بل توجد لغة كتابة ولغة محكية، والحوار في الروايات الروسية كله باللغة المحكية، التي قد تتضمن مفردات محلية، ولاسيما في منطقة معينة أو بأصحاب مهنة معينة.”
ويؤمن الدكتور تحسين بأن الرواية يجب أن تكتب بالفصحى، والحوارات ممكن بالعامية، وأية محاولة للكتابة بالعامية مصيرها الفشل لأنها تبقى محصورة ضمن النطاق المحلي.