المسرود الثقافي

410

ياسين النصيّر /

بالإمكان أن يكون هذا المقال أحد فصول كتابي” المسافة: جدلية القرب والبعد”، الذي اشتغل عليه. لو نظرنا إلى حقيقة النثر من أنه ديوان الحياة اليومية، ونظرنا للشعر أنه وريث القول الأسطوري، ولكنَّنا نخصّه هنا بمقالة قصيرة، لمعرفتنا أن جدلية القرب والبعد هي الطاقة التي توّلد كل ما عداها من أساليب صنفية تقول عن هذا النص شعراً، وعن ذاك نثراً.
أما المسرود فهو بنية أسلوبية كونية لكل ظاهرة ثقافية، وطريقة قول شاملة تتلبس بها كل الأصناف الأدبية والفكرية والعلمية شعرية كانت أم نثرية. لذلك ليس المسرود الثقافي صفة شعرية ولا صفة نثرية. ففي النثر شعرية وسردية، وفي القصيدة شعرية ونثرية. وأول ما يلاحظه المراقب أن النثر ليس شخصياً كلياً، وإن وضَعَ المؤلف اسمه على نصه النثري، فبنية النثر المعرفية هي إنتاج لعلاقات مؤسسات المجتمع وفئاته ولهجاته المختلفة، ليس الآن بل على مدى عصور متراكمة المعرفة، ولذلك يكون مؤلف النثر شبه مختفٍ في نصه، وإن كان محدّد الاسم، لأن النص النثري وليد لسلسة من تراكم الأساليب المختلفة. بينما يكون الشعر إنتاجاً فردياً، ويرتبط بالقدرة الذاتية للشاعر على استبصار التاريخ والتراث والحياة اليومية، وتكون الأساليب النثرية مرجعية له. ولذلك لا تصلح القصيدة أن تكون شاهداً مكتمل الشهادة على التراث والتاريخ، بل شاهد مشكوك في وثوقيته لأن قائلها فرد. وعلينا – بناء على ذلك – أن نفرّق بين شعر يحمل اسم شاعر، وشعر لا يحمل اسم شاعر كالملاحم والأساطير الشعرية، فشعر الملاحم والأساطير ليس شعراً لشاعر محدد الاسم، إنما هو إنتاج لثقافة الجماعات الاجتماعية المشتركة، التي رأت الكون رؤية ثقافية، أي رؤية جماعية كتبت بطريقة الشعر أو النثر، وعند معاينتها نقدياً وتحليلياً، نجدها ليست شعراً نقياً ولا نثراً نقياً، إنما هي مسرود ثقافي فني عبَّر عن موضوعات كونية.
يحتوي المسرود الثقافي على بنيتي الشعر والنثر معاً.. فأسلوب الملاحم والأساطير الشعري، تشكيل معرفي يعود أساساً لأسلوبية مثيولوجيا الجماعات البشرية التي ألغت الشعر والنثر كمحددات للأسلوبية الثقافية، واعتمدت أسلوباً شكلته اللهجات الاجتماعية، يجمع بين النثر والشعر، يمكن أن نطلق عليه “المسرود الثقافي”. أو”نثر العالم” الذي تحدث عنه ميرلو – بونتي. فهو ينطوي على كل خِطاب حتّى وإن كانت التجارب الإنسانية لا تختزله إلى ما يمكن قوله، لذلك تعد الملاحم والأساطير الشعرية مسروداً ثقافياً كونياً، لأنها ليست من إنتاج شاعر أو ناثر محدد، وإن ما يميزها ليس أسلوبها اللفظي فقط، بل محتواها الكوني والإنساني العام، وهو محتوى “المسرود الثقافي” الذي يعود لإنتاج البشرية جمعاء. وقد يأتي ناقد له معرفة عميقة بطريقة تشكّل الأساليب، ليفرّق بين المسرود الشعري والمسرود النثري، ليجدهما يشكلان معاً “المسرود الثقافي”. ليس على أساس خصائص النص الجنسية، بل عن كيفية إنتاج آلية المسرود الثقافي للنصوص الشعرية والنثرية.
إن الأساطير والملاحم الكونية الكبيرة، هي نصوص “المسرود الثقافي”، لأنها ليست إنتاجاً فردياً، وظهرت بأشكال شعرية جماعية، يمكن ترتيلها كجزء من الطقوس والكرنفالات، كما أن نصوص الحياة اليومية والاجتماعية التي تنتج عن العلاقات المختلفة هي مسرودات ثقافية، وإن كانت بأسلوب النثر، اختصت بميادين قول مختلفة: الفلسفة والقانون والتنظيم والطب والحكاية وغيرها، فالسرديات الكبرى كالحكايات والقصص والسير الشعبية، ومدونات التاريخ وغيرها، ليست نثراً نقياً، وإن كتبت بأسلوب النثر، إنما هي “مسرودات ثقافية”. وهنا يبرز مثال أسلوبية القرآن الكريم، وهي نموذج يجمع بين الاثنين “الشعر والنثر” وفي الوقت نفسه ينفي وجود الشعر والنثر فيه، لأن القرآن “مسرود ثقافي”، يقيم أسسه على انزياحات السرد والشعر الحياتي والأسطوري والملحمي، ويحلّ محله القول الإلهي، وهو قول لا يرتبط بأسلوب بشري كالشعر أو النثر، بل يرتبط بثقافة التعاليم وقدسية العلاقة البشرية مع الآلهة، هذا النوع من المسرود الثقافي للكتب المقدسة، أرفع مرتبة من القصة والتعاليم والحكاية وقصص الحياة اليومية، ويختلف جذرياً عن خطابات الشعر والنثر التي اختصت بتتبع المشكلات الاجتماعية، فالبشر يخلقون إشكالات للقول تتناسب وحاجاتهم، كتشكيل معرفي يربط بين حياتين: حياة الآلهة وحياة البشر، وكانت المسافة هي مسافة القرب والبعد بين السماء والأرض. لقد تكفّلت الميثولوجيا اليونانية بأن خلقت الإله “هرمس” لتوصيل رسائل الآلهة للبشر، ورسائل البشر إلى الآلهة، فأصبحت المسافة مشحونة بالمقدس، وحذت حذوها الميثولوجيا الدينية عندما جعلت “جبريل” رسولاً بين الله والبشر، ينتقل وينتقل، ووطّنت هذه العلاقة عبر الكلام لدى الأنبياء موسى وعيسى ومحمد،”عليهم السلام”، ليكلموا الله بطريقة ليست نثراً ولا شعراً، بل بطريقة “المسرود الثقافي” الذي عدّه الدكتور طه حسين أسلوباً خاصاً بالقرآن، أسلوباً يختص بالتقديس والتبليغ وموضوعاته دنيوية وأخروية معاً، لذلك ترفض الكتب المقدسة أن تكون شعراً أو نثراً، ولبعض الآراء التي رأت أن جذور شعرية النثر تكمن في الأناجيل، والتوراة، والقرآن، وحقيقة الأمر ليست هذه الشعرية النثرية إلا “المسرود الثقافي” لطرائق العلاقة بين البشر والآلهة. ففي القرآن والكتب المقدسة الأخرى، من الشعرية اللفظية ما يربطها بمجموعة من الثقافات الشعبية في إطار الإيقاع، والسمع، والتكرار، والصوت، وفيها ما يربطها بالنثرية الشعرية الكونية من خلال الحكاية والقصص والميثولوجيا والنبوءات، بطريقة فنية مكنت الأنبياء أن يقولوا أقوالهم الخاصة بجوار النصوص المقدسة، دون أن تكون أقوالهم شعراً أو نثراً.. إذاً ما الذي يجعل ثمة طريقاً ثالثاً يجمع الشعر إلى النثر ليكوّنا معاً “مسروداً ثقافياً، ليس هو المسرود الشعري، ولا هو المسرود النثري؟.
إن ما يجمع بين المسافات المضمرة في الحقول الثلاثة: حقل إنتاج الشعر، وحقل إنتاج النثر، وحقل إنتاج “المسرود الثقافي”، هو طبيعة الخطاب البشري. وتبسيطاً لوجود الحقول الثلاثة مندمجة في “المسرود الثقافي”، نقول: إن الحقل الشعري الذاتي مرتبط بخطاب شاعر محلق في اللامكان، وأن الحقل النثري الاجتماعي مرتبط بخطاب اجتماعي يتحدث عن أفعال الأرض البشرية، بينما يكون خطاب حقل “المسرود الثقافي”، خطاباً للشعرية الكونية، التي تجتمع فيها خطابات الآلهة والبشرية. وهذا ما نجده في ملحمة الخلق البابلية، وملحمة كلكامش، والملاحم الآسيوية، والهندية، والإلياذة، والأوديسة، ورسالة الغفران، والكوميديا الإلهية، لتؤلف “مسروداً ثقافياً” يحتوي الأنواع الأسلوبية كلها.