المناظرات.. حوار العلم والدين

366

نصير الشيخ/
كتاب “دين العقل وفقه الواقع ــ مناظرات مع الفقيه السيد أحمد الحسني البغدادي” لمؤلفه المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بطبعته الأولى/ حزيزان 2021.
تضمن الكتاب تمهيداً وقسمين، اختص القسم الأول بـ “الإطار المنهجي المفهومي” عبر إلقاء نظرة فاحصة على حيثيات المناظرات بكل تفاصيلها. بينما اشتمل القسم الثاني من الكتاب على ثماني عشرة مناظرة مع السيد أحمد الحسني البغدادي،
تناولت المناظرات موضوعات شتى، جاءت مبوبة في طروحاتها النقدية ومستوى حمولاتها المعرفية بما يكشف عن عمق الأسئلة المطروحة من لدن المؤلف، تقابلها مستويات الأجوبة الباحثة عن أطر جديدة لمشكلات العصر المنطلقة من جوهر الدين وحضوره الإنساني، بدءاً من المناظرة الأولى المعنونة “الإيمان واللا إيمان”، وحتى المناظرة الأخيرة. هذا المتن الفكري الذي قدمه لنا المفكر عبد الحسين شعبان في كتابه هذا، هو جهد استثنائي تقصى فيه الأفكار القارة وموضوعاتها وقضايا العصر ومحاكاتها عبر الجدل والتساؤل، ومن ثم التوصل الى نتائج تتيح لنا إيجاد مبحث محدث عن الحقيقة، كل هذا عبر هذه المناظرات مع السيد البغدادي التي اتسمت بالصراحة والوضوح في تبادل الآراء ووجهات النظر وإعادة قراءة بعض المسلمات واليقينيات والقناعات والأطروحات بإخضاعها للنقد.
” ما نحتاج إليه اليوم هو إخضاع مالدينا من سلطات ومؤسسات ولغات ومعارف وموروثات وأخلاقيات وقوانين وطرائق تديّن وإيمانيات، بعضها لاعلاقة له بالدين، للنقد حتى إن كان خروجاً عن المسلمات واليقينيات، مادام هدفنا البحث عن الحقيقة” ص10.
إذاً هو التغيير الشامل في البنى والأفكار ولغة الخطاب والبحث عن حقائق للمعنى لوضع أطرٍ أكثر حداثة لحياتنا تتعايش مع جدل العصر وتحولاته الهائلة. والدين، كمنظومة قيمية وأخلاقية تكمن في النفس والعقل والروح، لابد من تجديد خطابه عبر وعي الذات والحوار والتوقف ملياً عند السرديات التاريخية، حيث تتداخل الوقائع مع “الميثولوجيات” أحياناً. من هنا يتوقف المؤلف على أمر في غاية الأهمية ألا وهو “ثمة علاقة عضوية سوسيوثقافية بين الدين والتدين، أساسها جهل الإنسان بذاته وبالآخر، إضافة الى جهله بالطبيعة وغموض المستقبل وصعوبة التكهن به والموت ومابعده.” ص12.
ويظل جدل الفكر التنويري والدين كمنظومة آيديولوجية في اشتباك شاسع المساحة، وذلك لما يمتلكه الفكر من آليات حفر وتخصيب وجدل لجملة الأفكار والخطابات الدائرة في كل موضوعة تهم حياتنا وواقعنا، يقابله الدين ورجالاته الذين أفرغوه من إبداعه الدلالي وواقعيته السياسية ـ الاجتماعية، إذ تحول المتدين الى مجرد مؤدٍ للطقوس والشعائرعلى نحو متذلل أحياناً.
كتاب “دين العقل وفقه الواقع” متن فكري يشي بفلسفة “المحاوِر” وأفقها النقدي، وهو يحفر عميقاً في مطارحاته ومناظراته عبر مداخل تؤدي الى قضايا الفكر والوجود ومساءلة العالم أجمع، منطلقاً من حدود الدين والتدين بضروة “إحكام العقل” انسجاماً مع فقه الواقع. ذلك أن “أفق الحديث المستمر عبر مساحة السؤال المثير من لدن المؤلف تجاه المحاور الآخر يجري عبر متوالية الاحتكام الى المعرفة، فإن ذلك أساس الدين، ولا دين من دون عقل، ولا عقل من دون علم”.
القسم الثاني من الكتاب تبدأ فيه المناظرة الأولى، التي هي نقطة انطلاق هذا الحوار الخلاق والجدل الفكري، ثماني عشرة مناظرة توزعت موضوعاتها على محاور عدة، لها وجوهها المعاصرة، ينطلق فيها المؤلف د.عبد الحسين شعبان من “مفهوم الدين” الذي يشكل قاسماً مشتركاً للانطلاق في حوارية تبغى الوصول الى غايات محدثة لتعزيز قيم الإنسانية، ولا تتأتى هذه القيم إلا بعد بعثها من جديد عن طريق طرحها سؤالاً وإشكالية، مثل ((الدين والإرهاب/ الدين بين المقدس والمدنس/ الدين والعنف..الخ )) كلها شكلت أطاراً عاما لمتن الكتاب المؤلف من 319 صفحة من القطع الكبير.
مناظرات جاءت في حوارية فكرية ارتقت بفهم الطرفين لتحليل الظاهرة وجذورها وتاريخها وعمقها التاريخي، ومن ثم التوصل الى مشتركات فكرية بما ينعكس في الإجابات التي هي مهاد لمخرجات جديدة لفهم الدين والتدين وحلوله في البنية المجتمعية روحياً وفكرياً وثقافياً وقيمياً. لقد اتخذت المناظرات شكل السؤال من لدن المؤلف، هذا السؤال الذي ينفتح على آفاق أرحب نجدها في أجوبة السيد الحسني البغدادي، وكأني بهما يمدان جسراً معرفياً للوصول الى حقائق مطمئنة وإن اختلفت التوجهات. خذ مثلا المناظرة الثامنة “الطائفية والتمذهب”، إذ يسأل المؤلف د.حسين شعبان السيد الحسني: ماذا يتبادر الى ذهنك حين تُسأل عن هويتك؟ كيف تعرِّف نفسك؟ هل أنت عربي أم عراقي أم شيعي أم إسلامي أم ماذا..؟
ليجيب السيد البغدادي على الفور: “هناك درجات، وشعوري الأول هو أني انتمي الى أمة كبيرة هي أمة العرب ووطني هو العراق، وأن هناك أمة أوسع هي الإسلام، وفي إطارها هناك مذاهب” ص 125. إذاً كانت المناظرات تجس مفاصل هامة وحيوية في حياتنا المعاشة، عابرة مواضيع قارة ومستهلكة في إطار الدين، ليتضح من خلال الأسئلة والأجوبة بين المتناظرين حضور الفكر ودوره التنويري في إثارة الأسئلة للوصول الى أجوبة تلامس عقولنا وفهمنا المشترك..
من هنا سعت المناظرات في حوارياتها المشتركة ما بين “ليبرالية” الفكر ممثلة بالمفكر د.عبد الحسين شعبان، و”مركزية الدين” وفقههِ ممثلة بالسيد الحسني البغدادي، لتكوين حلقة مركزية منطلقة من السؤال المنطقي / التاريخي، ومن ثم إضاءة المعتم والمعزول في الفكر الديني، ليقدما لنا خطاباً ثقافياً فكرياً متناسباً مع الظروف الحاضرة وتطلعات المستقبل.