الناقد والأكاديمي صالح زامل: الفولكلور يجمعنا في ذاكرة وهوية واحدة

802

#خليك_بالبيت

د.علاء حميد /

الدكتور صالح زامل ناقد وأكاديمي يدرس في كلية التربية، قسم اللغة العربية بالجامعة المستنصرية، له اهتمام معرفي وعلمي بقضايا الفولكلور وعلاقته بالمجتمع، لهذا أشرف على عدة دراسات في الماجستير والدكتوراه تناولت الفولكلور من جوانب متعددة، حاورته مجلة الشبكة بشأن تأثير الفولكلور على هوية المجتمع العراقي.
* من أين تنطلق في اهتمامك بالفولكلور، وماهي أسباب هذا الاهتمام؟
– هناك ثلاثة منطلقات تحرك هذا الاهتمام: الأول؛ شغف بالذاكرة وتعرف هناك علاقة وطيدة بين الذاكرة والفولكلور ويتداخلان في موضوعات ومجالات الجمع في مواضع كثيرة، والثاني؛ بعث الهوية الوطنية أمام التزاحم الذي نجده اليوم في الهويات المتناحرة من العولمة في الفضاء الأممي إلى الهويات الاثنية والعرقية في الفضاء الوطني التي تحاول التسيد على حساب الأخرى، والفولكلور يقدم هوية وطنية من خلال البحث عن المشتركات في الحكايات المسافرة بين الربوع المختلفة إلى العادات والتقاليد والفنون الشعبية التي تتخصص حسب الامكنة وتتواصل في أكثر الامكنة، وموضوعاته مشترك إنساني غير طارد ولا توقفه بيئة من الانتشار والانتقال كاغنية الحب او هدهدات الأم، كما وجدت أن ما يحضر عالميا، ويحتفى به، هو التراث المحلي، لذا تجد المستشرقين بغض النظر عن الأغراض كانوا سباقين في اكتشاف هذه الهوية، والعناية بها، وبوقت مبكر، سبق عنايتنا بل جزء من التفاتنا كان بتأثير هذه الاشتغالات الاستشراقية، فجمعوا الحكايات الشعبية، ووصفوا العمارة الشعبية، وسجلوا العادات والتقاليد، ووثقوا بالصور التاريخ الاجتماعي، ونذكر هنا على سبيل المثال، ماسنيون، ففي العقد الثاني من القرن العشرين قدم دراسة عن لهجة بغداد، وعرج على نداءات الباعة، والأمثال العامية وتدوينها، ومعالم من البيت البغدادي، وقدمت الليدي دراور أعمالا عديدة منها؛ (قصص شعبية عراقية) في العقد الثالث من القرن الماضي ثم كتابها المهم عن (الصابئة المندائيين) وكتابها (في وادي الرافدين صور وخواطر) فضلا عن دراسات الانثروبولوجيين، وكتب الرحالة، ويوميات عوائل الباحثين الذين عاشوا بين العشائر في الأقاصي من الأهوار إلى خيام البدو إلى المدن المختلفة، وقد سجلوا لنا العادات والتقاليد المختلفة والالعاب الشعبية والغناء والطقوس والازياء الشعبية مع عناية بالمراتب الاجتماعية والمطبخ ومآكله، والثالث؛ يأتي من عنايتي بالثقافة وموضوعاتها مثل الهوية والاختلاف والآخر والهامش وهي عندي نزعة إنسانية لصيقة بأعمالي النقدية والثقافية.
* هل ترى أن الفولكلور يمتلك مقومات تساعد على فهم المجتمع العراقي؟
– هذه القضية تحيلنا إلى علم الفولكلور، فقد ميز المختصون بين الفولكلور؛ وهو المواد الخام التي يتم جمعها وبين علم الفولكلور؛ والمجال الذي ينهض بالدراسة العلمية للنتاج الفولكلوري، وهذه الدراسات تتعاطى مع الطريقة التي يفكر فيها الهامش بمواجهة أو منسربا في التضاعيف مع قضايا الكون والوجود، والحياة اليومية وما يلامسه ويجسده في حكايات وأمثال وأغانٍ ورقصات أو حرف معينة وهو في هذا يعبر عن موقفه، وهو موقف الجماعة أيضا، ويسير وينتشر باسم الجماعة، ويصير مشتركا، ويتقبل الإضافة مع عدم تدوينه، ويغيب مبدعه الأول، وغياب هذا المبدع اعتراف جماعي بما يقوله، وهو يمر شفاها، وهو بعد ذلك يمثل ثقافة ومواقف مغيبة ينظر اليها بتعال وتجاهل غالبا من قبل النخبة التي تؤلف موقفها أيضا بثقافة مكتوبة ورسمية، وقد تمثل شخصا وأفرادا وتاريخا رسميا بمعنى آخر؛ إن علم الفولكلور هو الذي يقدم لنا دراسات تعين على فهم المجتمع، وهناك دراسات تستنبط هذا الفهم للمجتمع في تعاملها المباشر مع الفولكلور بوصفه مواد، ولعل نموذج الوردي قد قدم مثل هذه المقاربات انثروبولوجية واجتماعية، فقد أفاد من المرويات الشفاهية من عادات وعقائد العامة وإيمانهم في تضاعيف كتبه مناقشا الطريقة التي يفكرون فيها، ومدى تأثيرها في صياغة البنى الاجتماعية في صعودها ونكوصها، فضلا عن اهتمامه بالتاريخ الشعبي في مواطن كثيرة من كتابه المهم اللمحات.
* هناك من يرى أن الاهتمام بالفولكلور نابع من توجهات النظام السياسي، وهذا ما حصل في خمسينيات القرن الماضي، كيف ترد على ذلك؟
– لا أذهب هذا المذهب، ولعل إطلالة للمؤرخ الفولكلوري بشكل مسحي على الاشتغالات الواعية يدل على بعد زمني يؤرخ فيه لهذا الاشتغال حيث يرجع إلى أوائل الربع الأول من القرن الماضي، كانت فيه مجلة (لغة العرب) للأب الكرملي أول المهتمين بالدراسة والجمع أحيانا للفولكلور، ويمكن وضع جريدة طويلة بالموضوعات التي تم التصدي لها، بل للأب الكرملي قائمة مهمة من التآليف في (مجموعة الأغاني العامية) و(حكايات بغدادية) فضلا عن عناية باللغة العامية، والأمثال العامية غير مقالاته المنشورة في مجلته، ومجلات ذلك العهد فضلا عما فُقد بسبب الحرب، كما وثّق لنا كاظم الدجيلي مساعده في المجلة عشرات الرحلات التي كتبها عن المدن العراقية، ولم يهمل فيها تناول الحياة الشعبية وعمران كل مدينة وقصبة، ومنها أمكنة نائية بل نجد لديه أول إشارة لمصطلح الفولكلور، ويترجمه العريقيات أو علم القوميات، ويترجمه آخر في الفترة نفسها في أحد الصحف العراقية بـ( لغة العوام، أو الخلقيات) المهم كان هناك إلتفات للمصطلح ولمواده، ولعل ذلك مبعثه اهتمام الغربيين بالتراث الشعبي العراقي.
أما الاشتغال المؤسسي الحقيقي فقد كان بعد الثورة 1958 عندما أسست في وزارة الإرشاد (مديرية الفنون والثقافة الشعبية) وتفرع منها أول مركز فولكلوري عراقي وكان الدكتور أكرم فاضل أول مدير له، لكنه لم يكن بمستوى الطموح، فقد اقتصر اشتغاله على إصدار بعض الكتيبات المهمة، لكن لم يرافقه عمل حقيقي بالتوجه إلى الجمع والتعريف، ويبدو أن المركز ولد في فترة زمنية كانت التناحرات السياسية في أوجها، واتهام حكومة الزعيم بالشعوبية فتّرت من هذا الاتجاه، حيث تعد العناية بالفلولكلور من ضمن الشعبيات التي يرون مبانيها شعوبية، وهنا يكون مدخل السياسة وتناحراتها التي كانت تتباكى على التراث العروبي من الضياع في مواجهة الوطنية التي رآها المعارضون إقليمية تقطع العراق عن بعده العربي، لكن الغريب أن مصر العروبية كانت تسير بخطى وئيدة في هذا المجال، وقد سبقت الجامعة المؤسسات الأخرى في الاعتراف بالفولكلور، فقد كان الاشتغال مجردا من دعاوى السياسة، ولعل قوة النزعة المصرية كان لها الأثر في ذلك، فلم تخلُ الساحة المصرية من هذا الصراع الذي كان علميا كما في أوروبا وموقف التنويريين، وقد استدعى الامر أن يصرخ فولكلوري مثل عبد الحميد يونس بدفاعاته عن الفولكلور، لكن الامر في العراق كان معفنا برائحة التناحر السياسي أكثر منه علمي لأن المعترضين ستتحول مواقفهم بعد انقلاب شباط 1963 فلم يلغوا مديرية الفنون والثقافة الشعبية بل نجحت في إصدار تآليف مهمة في مجال الفولكلور، وسمحوا بإصدار مجلة (التراث الشعبي) وهي مجلة متخصصة في الفولكلور، وقد صدرت في أيلول 1963 وهي أول مجلة فولكلورية على مستوى العراق والعالم العربي، فأول مجلة عربية هي (الفنون الشعبية) صدرت في مصر سنة 1965 أي بعد سنتين من الإصدار العراقي، غير أن الاشتغال الحقيقي في الفولكلور مؤسساتياً في العراق كان بصدور مجلة التراث الشعبي عن وزارة الاعلام العراقية سنة 1969 وبعد تأسيس معهد الحرف والصناعات الشعبية.
* بماذا تفسر غياب الاهتمام الاكاديمي بقضية الفولكلور تدريسا وبحثا؟
– هناك أكثر من معوق، لعل أولها الصراع الجاري منذ آماد بعيدة بين العامية والفصحى في مجال التعليم، ولقد حل الأسلاف هذه القضية، وخاصة مع الحضارة العربية في زمن العباسيين، وهي أن المؤلفين كانوا أكثر تسامحا في هذا الصراع عندما نقلوا لنا اللهجات، وهم يدونون مشارب في الثقافة شعبية، وذلك واضح في أعمال الجاحظ والتوحيدي بل ذهب بعضهم أبعد عندما ألفوا معاجم في العامي والفصيح أو في كلمات الناس، ونقلت لنا بعض التآليف المختلفة حياة وعادات وتقاليد العامة كما سموهم، وحملوها الكثير من التجريح والدونية الطبقية، لكنهم دونوا كل ذلك عرضا أو قصدا. والاكاديمية العراقية لم تنفتح على هذه الفضاءات وكما ذكرنا سابقا الصراع لم يكن فيها علميا بقدر ما هو خاضع لتجاذبات السياسة، لكن هناك جهوداً فردية لأكاديميين، فبوقت مبكر قدمت جامعة الموصل دراسة أكاديمية عن الحكاية الشعبية الموصلية، وقدمت الجامعة المستنصرية وجامعة البصرة أكثر من دراسة متخصصة في الادب الشعبي، فضلا عن أقسام أخرى مثل الاجتماع والانثروبولوجيا، ولم تغادر هذه الاشتغالات إلى منطقة مهمة وهي الجمع والأرشفة التي قامت عليها الكثير من الدراسات في الجامعات العربية، وما زالت الجامعة العراقية قاصرة عنه، مع أن الجهد الاكاديمي هو الذي يعطي الاشتغال في مجال الفولكلور رصانة واتساعا ليس في مستوى الدراسات العليا، ولكن حتى في الدراسة الاولية.
يبدو أن مشكلتنا في العراق تحتاج إلى قرار رسمي من وزارة التعليم العالي ووزارة التربية، فالجهود الفردية تخضع لمزاجات الأقسام العلمية في الجامعة التي تقف عثرة من خلال سطوة رؤساء الأقسام أو بعض الأساتذة فيها أو التعذر بعدم وجود المتخصصين.
* هناك مفارقة، هي أنّنا في العراق أول من بادر إلى تأسيس مجلة مختصة بالتراث الشعبي، ثم أخذت توجهات الاهتمام بالفولكلور تضمر، برأيك أين الخلل؟
– أجبت ضمنا عن هذا السؤال؛ اشتغالنا أقدم كما ذكرت من مجلة التراث الشعبي على صعيد مؤسسي، فمديرية الفنون والثقافة الشعبية والمركز الفولكلوري منذ 1959 لكن يبدأ الاشتغال الملموس على صعيد المجلة التي ذكرتها، وسيكون أكثر تنظيما على أيدي فلكلوريين مهمين مثل؛ إبراهيم الداقوقي، وجلال الحنفي، وعبد الحميد العلوجي، ونوري الراوي، ولطفي الخوري وحسين علي، والرعيل التالي لهذه المجلة وهم كاظم سعد الدين، وباسم عبد الحميد حمودي، وقاسم خضير عباس وغيرهم عشرات، وصار الانفتاح أكثر على التراث الشعبي العراقي في بقاعه المختلفة، فقد كانت عناية الأوائل موزعة بين الفولكلور البغدادي، وفلكلور الفرات الاوسط، بحسب المهتمين والدارسين، كما كان للفولكلور التركماني حضور واضح، بينما قلت حظوظ الفلكلور في الجنوب والفولكلور الكردي، فضلا عن الاثنيات مثل الصابئة والمسيحيين واليهود وغيرها من الديانات والجماعات الاصيلة في الفضاءات العراقية.
* هل يأتي عملك بتأسيس الجمعية العراقية للتراث الشعبي ضمن مساعيك لإعادة الاهتمام بالفولكلور؟
– بعد عام 2003 انطفأ الاهتمام بالفولكلور وحتى المجلة ذات التاريخ العريق الذي يمتد إلى أكثر من نصف قرن صارت تصدر بعددين في السنة، ووزارة الثقافة نسيت المديريات المتخصصة بالتراث الشعبي، ومعهد الحرف وغيرها، تأتي جمعيتنا وفي جعبتها مشاريع إصدار موسوعات متخصصة تجمع مواد التآليف المختلفة التي جمعت الفولكلور متفرقا، وإكمال الآخر وإقامة حلقات للدراسة، وفرق للجمع من المتطوعين، ودورات في الجمع والأرشفة وفقا لأحدث الطرق الالكترونية، ونحاول التعاون مع المؤسسات المتخصصة في وزارة الثقافة، وهناك مساعٍ جادة لإقناع وزارة التعليم العالي بتضمين الفولكلور مادة دراسية في الجامعات في الدراستين الأولية والعليا.