النقد الثقافي.. والهواجس المعلَّقة
سامر أنور الشمالي ناقد وروائي سوري /
ليس (النقد الثقافي) بالمذهب الجديد تماما، أو الاتجاه المستقل بذاته، فبعد الاطلاع على أدبياته نجد أنه يعتمد -بشكل كامل- على المناهج الفكرية السابقة لوجوده، فليس لديه أدواته المعرفية الخاصة، وحتى مصطلحاته وتقنياته مستعارة.
فلا يتعدى مبرر وجوده غير طريقته في معالجة موضوعاته – وهذا ليس بالأمر السيئ على أي حال – ولا بد من التنويه إلى أنَّه قد يعتمد على أكثر من منهج في دراسة موضوع معين، لهذا قد يأخذ مصطلحات (فرويد) ليطبقها من زاوية (ماركسية) والعكس متاح أيضا.
بتعدد مصادر النقد الثقافي تتنوع مجالات اهتمامه، بل لا يوجد موضوع لا يمكن أن يخوض فيه باحثا وكاشفا، إن لم يرسم لنفسه حدودا يقف عندها، وبذلك تميز بمرونته، وامتلك خاصية الخوض في شتى مناحي الحياة، مؤسِّسا لتيار معرفي جديد منفتح على العالم بكل ما فيه.
لا شك في أن الإحاطة بالنقد الثقافي متعذرة، لهذا سوف نكتفي بإضاءة الجانب الأدبي منه، لا سيما أنّه بدئ في الاشتغال عليه قبل انطلاقه لممارسة فنونه في مجالات أخرى.
نظرة شاملة
اتسعت محاور النقد الثقافي الأدبية، ليس لقراءة النص بحسب المفهوم الكلاسيكي، بل لدراسة التراث الشعبي والفلكلور، وحتى الاهتمام بالأغاني الدارجة، دون العناية بتوفر سوية فنية بالضرورة. فالنقد الثقافي غير معني بتثمين العمل المنقود، بل بتحليل دلالاته ورموزه، من منظور سيميائي غالبا، وتبعا للنهج البنيوي الذي أخذ عنه بعض تقنياته، وذلك ضمن توليفة تصنعها ثقافة الدارس وخبرته. وبذلك تتفاوت أهمية الأطروحات المقدمة لأسباب شخصية.
أضحى النقد الثقافي ساحة مفتوحة لكل من أراد تجريب أدواته ضمن هذا التيار الجديد الذي لقي رواجا ملفتا للنظر إبان ظهوره، وهذا ما أحدث فوضى في الممارسة – وهذا أمر لا ضير منه – فلا يمكن إصدار قوانين صارمة تؤطر أي عمل فكري، بل نرجح أن هذا النوع من النقد الجديد منحه القدرة على المناورة، والمشاكسة أيضا، وبالنتيجة القدرة على الاستمرار مقارنة بالمناهج النقدية التي سبقته وأسّست لحضوره – تحديدا البنيوية بتياراتها المتعددة – وهذا لا يعني أن البنيوية ستنقرض تماما، وإن تراجعت حظوظها بشكل ملحوظ في نهايات القرن الماضي، ولكن ما قدمته من تقنيات مفيدة سوف تبقى لقدرتها على تقديم كشوفات مفيدة لدى إخضاع النص للفحص والتحليل، وهذا ما أخذه عنها النقد الثقافي باقتدار.
الحداثة وما بعدها
انطلق مفهوم (الحداثة) في الفكر عامة، والأدب خاصة، مع بروز النزعة الفردية ومع بدايات الرأسمالية، ولعل أبرز تياراته النقدية البنيوية بتياراتها، ويجب التأكيد على أنها لم تنتج إبداعا أدبيا خاصا بها، لهذا انتخبت من سجل الأدباء من ترى أن كتاباتهم تعكس مفاهيمها ورؤاها المستقبلية، رغم أن هؤلاء الأدباء لم يسمعوا في زمنهم عن البنيوية كـ(جيمس جويس – فرانز كافكا – وليم فوكنر) فالتيارات الفكرية والنقدية التي اعتمدت على التنظير المطلق لم تقدم نتاجا أدبيا راقيا يبقى على مر العصور. مع العلم أن كثيرا من المدارس التي اعتمدت منذ نشوئها على التنظير الفكري الخالص، باعتمادها على الإنجازات الجديدة للعلوم الإنسانية في زمنها – لا سيما علم النفس – قدمت نتاجا أدبيا معقولا، كـ(السريالية) ورغم ذلك لم تستمر كمدارس أدبية قابلة للتطور والاستمرار، وإن بقي الاتجاه السريالي حاضرا بنسب متفاوتة في الأدب الحديث، كأدب خالص. أي غير منتم إلى السريالية كمدرسة لها أنصار ملتزمون يشتغلون تحت لوائها!.
ثم أتى تيار (ما بعد الحداثة) الذي مثلته (التفكيكية) التي حاولت قراءة العالم بحسب وجهة نظر غير محددة الملامح، فجنحت إلى الغموض، بل إلى التعمية المقصودة لفقر النظرية ذاتها، وأبرز ممثليها (جاك دريدا) الذي لم يكن معنيا بتقديم تفسير واضح لهذا التيار الذي يتزعمه، بل لم يمتلك تفسيرا يمكن الركون إليه.
ويرى عدد من النقاد الذين ساروا على النهج ذاته أنّه لم يعد هناك ضرورة لوجود فواصل بين الأجناس الأدبية، أو حتى بين كتابات عامة الناس ومن يحترف الأدب لأن مبرر التقييم لا حاجة إليه البتة!.
ورغم أن هذه التيارات لم تقدم مفاهيم واضحة يمكن السير بهديها، فثمة من أشاع مصطلح (ما بعد بعد الحداثة) وبذلك يغدو الأمر أكثر تعقيدا، أو عبثيا تماما!.
الأدب والسوق
سيغدو طرحنا ناقصا إذا لم نشر إلى أن التيارات الفكرية في أوربا تقف وراءها مؤسسات ذات طابع تسليعي – في الكثير من الأحيان – لهذا هي بحاجة إلى منتجات جديدة للزبون المفترض، كما يحدث – على سبيل المثال – في عالم الأزياء، وهي تصنع نجوما في عالم الفكر والأدب – كما عالم الغناء – لتحقق سوقا لمنتجاتها الثقافية، وهي سوق لا خوف منها، ولا ضير من استمرارها – كما يرى البعض – فكثرة الإنتاج في مجال معين تؤدي إلى إنتاج نوعي في الكثير من الأحيان.
إضافة إلى أن الكثير من النقاد يبحثون عن التميز أو الشهرة، وربما المال، لهذا يحاولون أن يكونوا نجوما في مجال الفكر والأدب، ولكن الافتقار إلى الذكاء والنزاهة لدى الكثير منهم جعلهم يجنحون إلى الإغراق في الغموض، بل وإلى التمويه والتعمية كي لا تظهر ضحالتهم الفكرية والسوية الرديئة فيما يقدمون. لهذا يتهمون – عادة – من يحاول كشف زيفهم بأنه أساء فهم كتاباتهم التي تحتاج إلى ثقافة عميقة شاملة!.
وما يؤكد هذا الأمر أن أكثر تلك التيارات التي انطوت تحت تيارات (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) لاحقا، لم تحدث تطورا أو تأثيرا حقيقيا في مجال الأدب. بل اقتصر حضورها على دوائر معينة تتداول كتبا ذات طابع اختصاصي غير متفق على أهميته حتى بين أهله، رغم رواج بعض الكتب التي حركت فضول القارئ المهتم، وهذا ما كان يحرك سوق إنتاجها ويبعث فيه الحياة من حين لآخر.
لمحة تاريخية
بدأ تداول مصطلح (الدراسات الثقافية) مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وخرج من جامعة (برمنجهام) التي أصدرت منشورات تتعامل مع هذا المصطلح الجديد، وتلقف الكثير من النقاد هذا التيار الجديد، وأبرز رواده من روسيا وألمانيا وفرنسا. وفيما بعد خرج من عباءته مصطلح (النقد الثقافي) مع نخبة من أنصار هذا النقد الجديد.
لا يوجد اتفاق بين الدارسين على من اشتغلوا بجدية في حقل النقد الثقافي، بسبب تبدل واختلاف الأطروحات من كتاب لآخر، لهذا نجد تصنيفات الدارسين تختلف من دارس لآخر.
مع العلم أن نقادا كتبوا في مجال النقد الثقافي وهم لا يعدون أنفسهم من رواده أو من أبنائه، ومع ذلك صنّفهم الكثير من الدارسين تحت هذا البند. بل إن بعض كتب النقد الثقافي أدرجت (كارل ماركس) بين من زاولوا هذا النوع من النقد رغم أن فلسفته تعود إلى القرن الثامن عشر!.
فإذا كانت الاختلافات بلغت هذه الدرجة في موطن النقد الثقافي ذاته، وبين دارسيه، فكيف الأمر مع من استورد هذه المنظومة الفكرية عن طريق الترجمة؟!.
وهذا ما يجعلنا نتساءل:
-هل نستطيع التفكير، أو المطالبة، بل هل ثمة مبرر للعمل على إحداث نقد ثقافي بصبغة عربية؟!.