النهضة من مقبرة الى مرآب للموت
يوسف المحمداوي /
تعود بنا الذكريات لآلاف المشاهد المريرة التي تحتاج الى مليون عدسة تصوير لتوثيقها، وأنت تتلفت نحو سنوات الحروب وسط (مرآب النهضة) أو محطة السفر الأولى صوب سواتر وجبهات الموت، الصورة التي لا يمكن أن تفارق المخيلة هي صورة المغلوبين على أمرهم من شبابنا الجنود وهم يتدافعون على باصات (الريم) للحصول على مقعد في تلك السيارة الراحلة بهم باتجاه المجهول.
مكياج بائعات الشاي!
وقفت عند كشك صغير عند باب أحد مطاعم النهضة مرتشفاً كوب الشاي مع نفس طويل من دخان سيكارتي وأنا أحاول الهروب من مرارة زمني هذا الى زمن أمرّ وأقسى، زمن أتذكره على الرغم من مرور عقود على رحيله وكأنه حدث بالأمس، صور بائعات الشاي وخبز (السيّاح) مع القيمر وهنّ يتسابقن بسحر جمالهن ومكياجهن لكسب أكبر عدد ممكن من الجنود الذاهبين عنوة الى حرب لا لهم ولا للوطن ناقة فيها أو جمل، والمصيبة أنه رغم ألم فراق الأهل او الزوجة او الحبيبة إلا أننا كنا نتجاهل جميع تلك الأشياء ونبدأ بنسج أحاديث الغزل البريء مع البائعات السعيدات بوجودنا او بالحقيقة بدنانيرنا التي ندفعها ثمناً لما نأكله أو نشربه، وكل واحدة منهن تعرف تماماً بأن هذا الجالس أمامها مع حقيبته، ربما لا يعود ولن تراه مرة أخرى. أتذكر جيداً مع وجود أصحاب البيريات الحمر (الانضباطية) كيف كان الجنود يتقافزون الى داخل الباص من نوافذه في سبيل حجز مكان لهم لرحلة قد تدوم لتسع ساعات أحياناً خاصة إذا كنت مسافراً لأقاصي جبهات الجنوب او الشمال، وإن لم يحالفك الحظ بالحصول على ذلك المقعد فسوف تكون مجبراً على الوقوف او الجلوس في الممر، او ربط نطاقك ما بين مقعدين لتقضي الرحلة معلقاً عليه وأنت تسمع شخير النائمين الحالمين بالنجاة من أتون حروب صدام.
ذاكرة المقبرة
عند مدخل المرآب الأول يقف أبو حسين رغم تجاوزه العقد السادس من العمر في عربته المحملة بأنواع السجائر والكرزات، ولسان حاله يقول “للرزق أحكام”، أما لسان ذاكرته عن هذا المرآب فيقول – وهو الذي كان يعمل في مقهى قبالة المكان – : كل هذه الأرض التي شيد عليها المرآب والمحال التي تحيطه من مطاعم وغيرها كانت عبارة عن مقبرة لليهود، تم تحويلها الى منطقة الحبيبية بعد مصادرة الأرض من قبل الحكومة العراقية بعد مجيء البعث للحكم، أي مع نهاية ستينات القرن الماضي وبداية السبعينات، موضحا بأن الأرض كانت ملكاً لتاجر يهودي اسمه دانيال تبرع بها مع مليون دينار عراقي لبناء أكبر مقبرة في العراق لطائفته، لكن الحكومة صادرتها وشيدت عليها مرآب النهضة وذلك في فترة حكم أحمد حسن البكر، مؤكداً أنه شاهد، بأم عينيه، كيف قامت آليات الحفر بإزالة القبور واستخدمت حتى “الشفلات” بالنبش لكون قبور اليهود كانت تحصّن بمادة الإسمنت، لخشيتهم من نبش قبورهم من قبل بعض اللصوص الذين كانوا يعتقدون بأن اليهود يدفنون مع موتاهم بعضاً من الحلي الذهبية والأشياء الثمينة التي يحبها المتوفى، وتمت إزالتها بالتمام في العام 1975وتم نقل القبور الى منطقة الحبيبية بجوار الشقق السكنية، وأصبح المرآب مكاناً لسيارات:(النيرن والفولفو و”دك النجف”، والشوفر الخشبي) والسيارات الصغيرة من الموديلات القديمة، قبل أن تدخل باصات الريم والسكانيا والروماني وبعدها المنشأة المسماة بـ(النيسان) وذلك نهاية سبعينات القرن الماضي، كما يقول أبو حسين.
صنّاع الحروب
بعد نهاية حديثي مع ابو حسين فرض سؤال كبير وجوده على طاولة الاستفسار وليس التأكيد على الأقل، وهو: هل كان النظام البعثي الشوفيني يدرك منذ سبعينات القرن الماضي أن هذا المرآب الذي كان عبارة عن مقبرة سيتحول في يوم من الأيام الى منطلق لموت شبابنا في مطاحن الحروب؟ وكأن أولئك الحمقى من صنّاع الحروب يعرفون أن النهضة ستكون في يوم من الأيام المزوّد لهم بقواقل شبابنا الى تلك السواتر الممتدة على طول الحدود، فهنا أتذكر جيداً كيف كانت الحشود من مرتدي الزي الخاكي يتسابقون على التواجد في قافلة الموت المتجهة صوب حدود ميسان، وحشد آخر متجه الى قافلة البصرة، وذاك نحو السليمانية، وجميعها حشود من الشباب الحالمين بالحياة لا الموت، لكنهم يخشون فِرَقَ الإعدام المنتشرة خلف السواتر وبين الأزقة، ومن صورة تابوت خُطّت عليه عبارة (خائن)، فاقتنعوا بالموت مجبرين لا مخيّرين، فكلمة شهيد وسيارة تويوتا ومبلغ من المال لعوائلهم أفضل من كلمة جبان ومطالبة عائلاتهم بسعر الإطلاقات التي يصوبها العتاة عليهم. نعم إنهم يعرفون وخططوا لأن يكون هذا المرآب امتداداً لتلك المقبرة، فانتحلوا سلطة عزرائيل في سرقة أعمار الشباب وأرواحهم ووظفوا المكان والزمان لتلك المجازر التي لا نزال الى يومنا هذا ندفع أثمانها ونحصد نتاج زرعهم وحقدهم الأصفر.
متخصص بمحافظات القتال
العامل في المرآب كاظم شاوي بيّن أن هذا المرآب شيّد وكأنه صنع للسفر الى المحافظات التي كانت تشهد القتال اثناء الحروب، فهو المنطلق لمحافظات البصرة وميسان وواسط والسليمانية وديالى وأربيل ودهوك وجميعها مناطق محاذية لإيران، في حين أن مرآب علاوي الحلة خُصص للمناطق الآمنة التي ليست لها حدود مع إيران كالموصل والرمادي وصلاح الدين، والنجف وبابل وكربلاء والديوانية والسماوة، فكان هذا المكان (النهضة) في الحرب العراقية الإيرانية او في غزو الكويت منطلقاً لذهاب المقاتلين منه للجبهات، ولذلك تجده في ذاكرة أغلب المواطنين الذين فقدوا أحبتهم في تلك الحروب مكاناً ممقوتاً وذكرى لشؤم الحروب وويلاتها، لذلك يدهشنا أن هذا المكان كان في السابق عبارة عن مقبرة، ثم تحول الى ناقل مفروض لأولادنا الى ساحات الموت لتكون الجبهات عبارة عن مقابر لهم، وهذا ما يدعونا الى تساؤل مشروع وهو: ما هو السر في هذه العلاقة بين المقبرة والمرآب؟ السائق علي جبارة يقول إن هذا المكان أصبح في أذهان الجميع يمّثل واحدة من أكبر المآسي التي عاشها المواطن العراقي، لذلك تجد أغلب السائقين او حتى الراكبين حين تنطلق عجلاتهم من ذلك الموقع يبدأون بقراءة الآيات القرآنية والصلاة على النبي (ص) للوصول بسلام الى أماكنهم، على حد وصفه، وماذكره جبارة (كما نعتقد) ما هو إلا دليل على وجود خوف غير معلن في قلوب المواطنين من هذا المكان الذي لا يختلف بنحسه عن سواتر الموت.