باحث الآثار نائل حنون: خطوط العالم ولدت من الحرف المسماري
عبد العزيز الناصري/
ما يميز علم الآثار عن سواه من العلوم المعرفية الأخرى هو تخصصه الفريد الذي ينصب في الاهتمام بمخلفات حضارات قديمة من خلال التنقيب في المناطق التي قامت بها تلك الحضارات. وظل هذا العلم زمناً طويلاً مقتصراً على علماء الغرب، ولعل ابرزهم “صموئيل كريمر”، إلا أن العلّامة الراحل طه باقر استطاع من خلال قراءته للرقم الطينية القديمة وترجمات انكليزية وألمانية ان يشكل مساراً جديداً لهذا العلم. وقد اشار الى كثير من الحقائق التي كانت مغيبة تماما عن هذا الاختصاص العلمي الدقيق.
وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهت في حينها العلامة طه باقر فإن تلميذه البارز والمتتبع لخطاه في هذا المضمار باحث الآثار الدكتور نائل حنون ظل هو الآخر متحديا هجمات المدعين وبمنهجية علمية ومهنية عالية. ولأجل تسليط الضوء أكثر على مسيرة هذا الرجل الاكاديمي الموسوعي كان لنا معه هذا اللقاء:
* دعنا نبدأ معك من زيارتك الاخيرة الى سلطنة عمان.. ترى هل كتب في سفر الحضارة العراقية القديمة شيء عن تاريخ عُمان؟ وما سبب زيارتك لها؟
– عاصرت عُمان حضارة وادي الرافدين على امتداد عصورها وتميزت بثقافة بحرية تجارية حافظت على علاقات متوازنة مع وادي الرافدين والخليج وبلاد فارس وبلاد السند، وقامت بدور الوسيط التجاري بين هذه المناطق في أحيان كثيرة. وعُمان غنية بآثارها وفيها مواقع يعود تاريخها الى نحو مليون سنة بدليل الأدوات الحجرية المكتشفة فيها (شمال صلالة) وعلى ارضها تواصلت العصور.
النصوص المسمارية من وادي الرافدين تضمنت اخباراً عن عُمان ومدنها وملوكها وبضائعها، وهذه النصوص تذكرها باسمها القديم (مجان) (Magan) خلال الألف الثالث والثاني ق.م، وتتحدث عن علاقات تجارية واسعة معها، ومن النصوص المسمارية ايضاً عرفنا ان مدن العراق القديمة مثل أور، بابل، ونفر وغيرها كانت تستورد النحاس والأحجار شبه الكريمة من عمان، وتصدر لها الجلود والمنسوجات وبعض المصوغات. وفي الألف الاول ق.م، تغير اسم عمان في النصوص المسمارية الاشورية اذ صار (فاديبي) اما الاسم (مجان) فقد تغيرت دلالته في تلك النصوص واخذ يقصد به جنوب مصر والنوبة، وهذا ما أربك العلماء والمهندسين ولم يعرف حتى الان سبب هذا التغير في دلالة الاسم..
كما وان ذات النصوص ذكرت اسم (بادي) بصفته ملكا على عمان باسمها الجديد (فاديبي) ومركز حكمه كان في مدينة (ازكي) وهي نفسها المدينة الموجودة بالاسم القديم نفسه وموقعها لا يبعد كثيرا عن مسقط العاصمة وقد اجريت اعمال تنقيب أثري في عدد من مواقع عمان، مثل راس الحد، وصحار، قامت بها بعثات غربية، وحان الوقت لأن تقوم بعثات اثرية وطنية باعمال التنقيب والاستكشاف وكان هدف زيارتي لسلطنة عمان هو التباحث حول تأسيس متحف هناك.
الخط المسماري
* العراقيون القدماء اكتشفوا الحرف المسماري، فكم لغة خرجت من هذا الحرف وتم اعتمادها في الرقم الطينية المكتشفة؟
– حين ابتكر الخط المسماري المقطعي في وادي الرافدين دونت فيه اللغتان السومرية والأكدية، ودونت فيه ايضا اللغات العيلامية في بلاد فارس والحيثية في بلاد الاناضول، والحورية في سوريا والعراق، ومن شكل هذا الخط اقتبست العلامات الهجائية الاولى لتدوين الاوغاريتية في سوريا، وعلامات هجائية اخرى لتدوين النصوص الفارسية القديمة في ايران، وكان ذلك آخر استعمال للشكل المسماري للعلامات اذ تم التحول الى الخط الارامي لتدوين الابجديات، والجدير بالذكر هنا ان اللغتين السومرية والاكدية اللتين استعملتا في التدوين طوال العصور التاريخية لحضارة وادي الرافدين كتبتا مقطعيا طوال تاريخها وبالخط نفسه، ولم ينتقل تدوينها الى الأبجدية التي بدا استعمالها مع تدوين الكنعانية والارامية ثم العربية.
ملحمة كلكامش
* من خلال هذه اللغة خرجت النصوص والمعلومة المعرفية والملاحم، ترى ماذا استخرج الدكتور حنون من اضافات جديدة تخص ملحمة كلكامش؟
– من الغرابة بمكان ان نجد مهندسا زراعيا يترجم ملحمة كلكامش من النص الاوروبي المترجم مدعيا انها ترجمة اصلية، ومنتقدا لترجمة طه باقر ويدعي ان ترجمته هي الافضل رغم كونه سوريا يجهل كثيرا من حضارة وادي الرافدين الى جانب عدم معرفته اللغة الاكدية التي كتبت بها الملحمة، لكن نجد ان العلامة طه باقر كان متخصصا باللغة الاكدية وعلى الرغم من انه ترجم الملحمة من اللغتين الانكليزية والالمانية باستثناء اللوح الحادي عشر الذي ترجمه من الاكدية مباشرة، فانه كان على اطلاع كبير بالنص القديم ومتفهما لبنيته، ما حبب لنا كثيرا هذه الملحمة لكونها الاقرب الى روح النص القديم.
وما قمت به انا هو جمع كِسر الملحمة والواحها والقيام بترجمة النص المسماري مباشرة مع اضافة كل ما اكتشف من اجزاء نصها بعد رحيل طه باقر، واضفت الى ترجمة الملحمة في كتاب طبع في دمشق ترجمة نص موت كلكامش الذي لم يكن جزءاً من الملحمة ولكنه نص مستقل باللغة السومرية سبق ان اكتشفت كِسرا منه في موقع نفر في ثلاثينات القرن العشرين، ثم اكتشفت نسخة منه كاملة تقريباً في تلول السيب وحدّاد لمواقع مدينة متران القديمة في حوض حمرين، وهذا نص ممتع يقنع فيه كلكامش بحقيقة الموت وحتميته بعد ان استغرق النص في وصف رفضه لهذه الحقيقة.
قصة الطوفان
* ذكر الطوفان في ملحمة كلكامش وكذا ذكر ايضا في نصوص مقدسة اخرى، ترى هو الطوفان ذاته الذي حدث في زمن نوح (ع).
– في عقيدتنا كما هو معروف لم ينقطع الوحي الالهي عن الارض بتواتر الانبياء والرسل بالظهور ونشر قيم السماء والدعوة الى توحيد الله تعالى، حتى ختمت هذه الرسالات بالدعوة الخاتمة التي جاء بها رسولنا الكريم “ص”.. واستقراء لقصة الطوفان التي وردت في النصوص المقدسة التي جاء بها هؤلاء الانبياء والرسل نجد انها مشابهة للطوفان الذي ذكر في ملحمة كلكامش الا ان ما ورد في الكتب المقدسة بطل ذلك الطوفان هو نبي الله “نوح” بينما في الملحمة جاء باسم (اوتابتشتِ).
التخصص في علم الآثار
* اسماء عديدة كتبت عن الحضارة العراقية القديمة، ولكن كيف كتبها العلامة طه باقر، وهل الدكتور نائل حنون امتداد طبيعي له؟
من المفترض ان يكون من يكتب عن حضارة العراق القديم متخصصا في علم اثار وادي الرافدين الى جانب معرفته الدقيقة بالكتابة المسمارية، وان يكون باحثا متبحرا في مجال اختصاصه، وفي ضوء هذه المعطيات لم يظهر في العراق عالم كبير سوى طه باقر. نعم هناك بعض المتخصصين ولكنهم في حدود امكانياتهم التي لا تقرب العلامة المرحوم لا من قريب ولا من بعيد.. واذا سألتني عن نفسي، فأنا اتشرف بكوني تلميذا لطه باقر مذ قرأت كتابه ((مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة “الطبعة القديمة”)) كنت حينها طالبا في الاعدادية، ثم تتلمذت على يده حين اشرف على رسالتي لنيل الماجستير في سبعينات القرن الماضي ومازلت اتتبع خطاه مستنيراً بعلميته الفذة.
التوثيق وابتكار الكتابة
* اذا ما اعتبرنا ان كل مكتشفات الحضارة العراقية هي في غاية الاهمية ولا تقدر بثمن، ولكن لابد من وجود الابرز فيها فما هو الاهم من المهم؟
– لعلي اجد ان ابرز ما في عطاء حضارة العراق القديم هو (التوثيق) وهو السمة التي تميزت بها هذه الحضارة وفي جميع عصورها، فقبل الكتابة كان هناك سعي حثيث للتوثيق، ومعنى التوثيق هنا لا يقتصر على الكتابة وانما يشمل مراحل ما قبل الكتابة باستعمال رموز معينة لتوثيق الصفقات لبضعة الاف من السنين وهو ما قاد الى ابتكار الكتابة.
لقد وثق السكان القدماء مختلف جوانب حياتهم وفعالياتهم ونتاجاتهم فوظفوا هذه الكتابة في التوثيق الى ابعد مدى، لذا نجد النصوص المسمارية زاخرة بمعلومات ومنجزات هذه الحضارة، وشملت مواضيع هذه النصوص ابواب المعرفة جميعها، فمثلاً لم يكتفوا في التأليف الادبي بالناقل الشفوي، بل وثقوا ذلك الادب الفني بمواضيعه وبنيته على الواح طينية، فوصلت الينا تسعة ابواب متنوعة من المؤلفات الادبية مما قد لا تملك مثلها امم معاصرة في يومنا هذا.
وتعتبر هذه الالواح الطينية التي استعملت للتوثيق دليلاً حيا على عراقة حضارة العراق القديمة، حضارة وادي الرافدين، فقد ابدع ابناء العراق القدامى في كل شيء، في الكتابة، والعمارة والفخار والفن والملاحة وغيرها الكثير.
أرض الحضارات
* اذا ما ذكرت الحضارة العراقية القديمة قد تعلو اصوات هنا او هناك تردد ماذا قدمت هذه الحضارة للبشرية والانسانية، فما ردك؟
– ساختصر هنا واذكر مثالا واحداً، ذلك انني احتفظ بموسوعات موجهة للناشئة، في اميركا عن المعارف والعلوم، وتبتدئ كل هذه الموسوعات بصفحتين او ثلاث تتحدث عن منجزات حضارة وادي الرافدين في مجال تلك الموسوعة، وتتنوع هذه المجالات في الفلك الى الملاحة والتدوين والادب والطب والرياضيات وغيرها، فعلى هذه الارض ابتدأت الحضارة ومنها تعلمت البشرية كل شيء.