خذوا الحكمة من افواه المجانين

1٬123

آيات أحمد جبر /

هذا المثل المعروف يدل على أن الثقافة العربية أكثر الثقافات إنصافاً واعتدالاً في وعيها بطبيعة الجنون، إذ يعكس هذا المثل وعياً بأن الممارسات الغريبة والخارجة عن المألوف قد تحمل سمات إبداعية أو ذكاءً فارقاً لأصحابها كما نرى في حكايات (جحا) العربي بمواقفها المتعددة أمام الملوك والقضاة والفقهاء واللصوص والتجار، فعلى الرغم مما تظهره من حمق إلا أنها لا تخلو من ذكاء وسعة وحيلة وبلاغة قد تصل الى الحكمة والرغبة في فضح الكثير من الممارسات البشرية التي قد نظنها فاضلة، وهذا التسامح العربي مع الجنون لا نجده في كثير من الثقافات، فعند الرجوع الى أصل كلمة (جنون) في اللغة اللاتينية (follies) التي اشتقت منها كلمة (مجنون) (fool)، نجد بأنها تعني بالوناً ممتلئاً بالهواء تتقاذفه الرياح هنا وهناك.
تيه وضياع
الأمر لايقف عند حد اللغة فقط، إذ أن الأساطير الإغريقية تتطرق الى هذا الموضوع لنجد فكرة العقاب الذي تنزله الآلهة الوثنية على البشر. في الأوديسا مثلاً نجد (بوسيدون) (إله البحار والمحيطات) يعاقب (أوديسيوس) (ملك إيثاكا الأسطوري) بالتيه والضياع، كما أن الإلياذة صورت قصة الصراع الشرس بين الإلهة (هيرا) وابن زوجها (زيوس) وهو (هرقل) الذي كان بشرياً، إذ استخدمت (هيرا) كل الحيل للقضاء على (هرقل)، لكنه كان يحمل عقلاً بشرياً يتمتع بالذكاء والفطنة الكافيين ليفلت من مكائد زوجة أبيه. وهكذا لم تجد (هيرا) بُداً من أن تصيب عقله بالجنون لدرجة أنه قتل أبناءه جميعاً. ولعل هذا التاريخ هو المسؤول عن صور المعاناة والعقاب الذي عاشه الموصومون بالجنون على أيدي البشر، وإن الصورة النمطية عن المجانين ظلت مرتبطة بالخطيئة والمرض أوكعقاب إلهي! وجرّاء هذا الفهم فإن بعض العباقرة الملهمين لاقوا مصير المجانين نفسه لمجرد أنهم تحدثوا بكلام لا يفقه الناس منه شيئاً أو أنهم مارسوا سلوكاً غير مألوف لدى العامة، في وقت لم تكن هناك فروق واضحة بين الجنون المرضي والجنون المفضي الى الإبداع والعبقرية، ويبدو أن المسافة بين كليهما قريبة حد الالتباس.
العلاج بالفن
اعتقد (فرويد) – طبيب نمساوي اختص بدراسة الطب العصبي – أن الفنانين يعيشون على حافة العصاب المرضي، أما تلميذه (كارل يونج) – عالم نفس سويسري – فيرى أن الجنون هو الفرق في اللاوعي والتماهي في صوره البدائية ما يؤدي الى الانفصال التام عن الواقع الخارجي ثم فقدان التفكير المنطقي المترابط، ولكنه يحذر من الانحباس في دوائر التفكير المنطقي فقط فهو نوع آخر من الحماقة والتحجر والانفصال عن قوى الحياة الفاعلة.
حتى الآن، ورغم البحوث العلمية التي أُجريت فإن العلاقة بين الجنون والإبداع غير محسومة، فهناك الكثير من الحالات لمبدعين وصفوا بالجنون وعانوا أمراضاً نفسية وعقلية عميقة مثل (بيتهوڤن) الموسيقي العبقري، الذي كان يعاني من اضطراب نفسي يسمى الاكتئاب ثنائي القطبين، يشعر المصاب به باكتئاب حاد يسبب له نوبات من الحزن العميق ثم الفرح الهستيري غير المبررين، لكنه ولسبب مجهول يزيد الإنتاجية الإبداعية لصاحبه، وكذلك كان الرسام العبقري (ڤان كوخ)، الذي كلفه هوسه أذنه اليمنى، والغريب أن معالجيه لاحظوا أن نوبات الهوس أصبحت أكثر عُنفاً بعد حجزه في المصحة النفسية ومنعه من الرسم، وبمجرد ان منحوه فرصة الرسم تحسنت حالته النفسية، كما لاحظوا أن حجم إنتاجه تضاعف، إذ كان لا يتوقف عن الرسم وكأن الفن أصبح طريقاً لتسريب طاقة الجنون لديه.
عتبات الجنون والحكمة
يرى (ميشيل فوكو) – فيلسوف فرنسي – أن الأذهان عند المهووسين تتحرك بعنف، فهي قادرة على الدخول في سبل لم يسبق أبداً تعبيدها، وأن هذه السبل الجديدة تقتضي مساراً فكرياً غريباً وحركات مفاجئة وخارقة للعادة .
يأتي هنا تساؤل: هل نحن أمام خيار واحد بين اثنين؟ هل الجنون سبيلٌ للإبداع، أم أن علينا البقاء عقلاء بلا إبداع؟
في الكتاب الأحمر الذي ألفه (كارل يونج)، قبل مماته بسنوات، وهو من أهم كتب السيرة الذاتية، يعترف بأنه مرّ بحالات من الهلوسة البصرية، حيث رأى خيالات مرعبة فظن أنه الفصام والجنون وعكف على متابعة حالته ومراقبتها وسجّلها، وفسّر العلاقة بين الإبداع والجنون، محرراً الجنون من وصمة الخطيئة التي وصم بها على مر الأزمان، ويلفت الانتباه الى ما فيه من حكمة، فعندما ترى البدائي المرعب الذي بداخلك تكون على أولى عتبات الجنون، وفي الوقت ذاته على أولى عتبات الحكمة، هذه الرؤية الداخلية هي بداية البصيرة الملهمة والمبدعة.
رحلة حج
الوصول الى الحكمة رحلة مضنية محفوفة بالمخاطر، حيث هناك جزء منك يخبرك بأن كل الصور الشاردة التي بداخلك هي مجرد أوهام، وفي الحقيقة أنها ليست كذلك، أنت فقط تحتاج قدراً من الشجاعة والإيمان لترى ذاتك، هي رحلة حج مسارها إليك لترى نفسك، تلك الرحلة خاضها الكثير من المتصوفة وعلى قدر اقترابهم منها يكون خطر الجنون، ولكن إن أبصروا أناهم الداخلية نجوا وفازوا بالبصيرة والحكمة.
كان (جلال الدين الرومي) يخشى فراق أستاذه (برهان الدين الترمذي)، لكن الترمذي قال له: “امضِ، وسر نوراً ما دمت قد نجوت من نفسك فقد صرت بأجمعك برهاناً.”
إن التفسير العلمي لهذه الرحلة، كما يراه عالم النفس (يحيى الرخاوي): “أنها عملية تحريك وقلقلة وتنشيط للمغمور في اللاوعي، تهدد بتفسخ وتناثر الشخصية ما لم تكن هناك مسارات مفتوحة في الوعي لاستيعاب هذا الغريب، ومن ثم إدخاله في المنظومة الكلية للشعور والتفكير.”
معنى هذا أن كل محاولات التفكير الإبداعي الخلاق تقف بالفعل على حافة الجنون، لكن طاقة الخلق الإبداعي الكامنة في الإنسان يمكنها أن تحيل كل الصور والأخيلة والأفكار التي تبدو جنوناً خالصاً الى ناتج يفضي الى تطور الحضارة البشرية.
يقول (ميشيل فوكو): “جنون حكيم ذلك الذي يقوم باستقبال جنون العقل ويستمع إليه، ويعترف له بحقوق المواطنة، ويقبل أن تتخلله قواه الحيّة، ومن خلال ذلك يحمي نفسه من الجنون.”