د.طه جزاع: لشكسبير حلمه ولي كابوسي
#خليك_بالبيت
جواد سليم/
هو صحفي يشار اليه بالبنان، وكاتب متفرّد بأسلوبه وحاصل على جوائز عن منجزه الأدبي وأكاديميا هو حاصل على دكتوراه بالفلسفة ويعمل أستاذاً في قسم الفلسفة – آداب – جامعة بغداد. ضيفنا الذي نرحب به في هذا العدد هو د.طه جزاع في حوار متشعّب من كتبه إلى الفلسفة والصحافة والجرأة والشجاعة وسلاح الكلمة والرمزي، نكتفي بنشر جزء منه بما يسمح مساحة النشر.
كتاب غير منتمٍ
* لنبدأ من كتابك “كابوس ليلة صيف” الذي يحتوي جوانب فلسفية تحفل بما نعيشه، لماذا جعلتها على لسان الحمار دون غيره من الحيوانات؟
– أهلاً ومرحباً، الشكر الجزيل لك، ولجميع الزملاء الأعزاء في مجلة الشبكة العراقية، وفي مقدمتهم الزميلة الكريمة نرمين المفتي، التي عملت منذ توليها رئاسة التحرير، على أن تكون هذه المجلة قريبة من المثقفين والأدباء والصحفيين والإعلاميين، وعموم القراء الذين يمثلون الأسرة العراقية الواحدة، بودي أن أوضّح بداية أن كتابي هذا لا ينتمي إلى صنف معين من الصنوف الأدبية المعروفة، ولا هو كتاب فلسفي بحت، إنما هو قراءة اتخذت صيغة الرواية للعديد من كتب التراث والأدب الرمزي والروايات والمذكرات والمقالات والأخبار العالمية والعربية والعراقية التي تحدثت عن الحمار، يرويها القارئ المثقف “أبو صماخ” الذي مُسخ إلى حمار في إحدى ليالي الصيف، لجحش أبيض صغير اقتحم غرفته في فندق الحمار الديمقراطي، هروباً من عصابة تلاحقه لذبحه، وبيع لحمه للناس الذين يظنون أنّه لحم عجل أو خروف ! . أما اختياري الحمار دون غيره من الحيوانات، ليكون ناطقاً أصالة عن نفسه، ونيابة عن الإنسان، فلأنّ هذا الحيوان هو الأكثر قرباً من الإنسان المكافح، والأكثر خدمة له، قديماً وحديثاً، والأكثر صبراً وتعرضاً للقسوة والظلم والإجحاف، وهو يطور خدماته بتطور الحياة، منذ أن كان يجر المحراث في القرى والأرياف، أو يحمل رعاة الأغنام والأثقال على ظهره، حتى صار يجرّ عربة النفط في المدن المتحضرة، ويحمل الأطفال على ظهره في مدن الألعاب.
* كُتَّاب عديدون تناولوا الحمار في كتبهم، هل يشد ذلك القارئ؟
– للأدب الرمزي جمهور واسع من القراء في مختلف الثقافات، وهناك الكثير من المؤلفات العالمية تنتمي إلى هذا الأدب التي لاقت رواجاً كبيراً، من أهمها رواية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل ذات الأبعاد السياسية والايديولوجية التي رافقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومن أشهرها في تراثنا العربي والإسلامي كتاب “كليلة ودمنة” ورسائل إخوان الصفا، لا سيما رسالتهم التي طبعت تحت عنوان “تداعي الحيوانات على الإنسان”، فضلاً عن الرسائل الفلسفية والصوفية التي اتخذت من الطير رمزاً، مثل “رسالة الطير” لابن سينا، و”رسالة الطير” لأبي حامد الغزالي، و”منطق الطير” لفريد الدين العطار النيسابوري. وهناك أيضاً في الأدب العالمي الكثير من الأعمال القديمة والمعاصرة التي تحدّثت على لسان الحيوانات والطيور، وفي الأدب العربي المعاصر يبرز توفيق الحكيم كواحدٍ من أهم الأدباء العرب الذين مرروا أفكارهم ومواقفهم عبر الحمار في رواياته ومذكراته ومسرحياته، مثل “حماري قال لي” و”حمار الحكيم” و”الحمير”. أعقبه الكاتب الساخر محمود السعدني في “حمار من الشرق” وأحمد رجب في “مذكرات حمار”، كما كتب السياسي الفلسطيني خالد الحسن “يوميات حمار وطني” ! كما أن هناك قصصاً وروايات عراقية اتخذت من الحمار موضوعاً مثل قصة “الحمار السادس” لفيصل غازي مجهول، ورواية “أحببتُ حماراً” لرغد السهيل.
* هل يمرّر دكتور طه جزاع أفكاره ورسائله في روايته بلسان الحمار؟
– قلت في البدء، إنها ليست رواية بالمعنى الحرفي للرواية، وإن كانت تنطوي على تقنية، وشكل سردي، وكل الحمير التي تحدثت في الكتاب تعود لكُتّاب آخرين، باستثناء ما تحدث به الحمار المثقف “أبو صماخ” مع الجحش الأبيض الصغير !
* مقدمة “كابوس ليلة صيف” فلسفية، لكنّك جعلت فيها شيئاً من الفكاهة، لماذا هذا الغموض؟
-حديث الإنسان وأفكاره التي يعبّر عنها على لسان الحمير، هو بحد ذاته يمثّل فكاهة وسخرية مريرة، لكنّها سخرية من الإنسان، أكثر مما هي سخرية من الحمار! غير أنّ البشر عادةً يسخرون من الحمار ويتوهمون فيه الغباء والبلادة وسوء المنظر والصوت المنكر، لكنّنا نجد في الكتاب عرضاً لقصص وروايات وفلسفات عالمية وعربية وعراقية، ما يبرهن على نباهته وفطنته وموهبته، فالحمار كما جاء في كتاب “نباهة الحيوان” الذي أعدّه وقدّم له وشرحه وعلّق عليه، الأديب اللبناني عبد اللطيف شرارة : “فهيم لا بليد لأنّه ليس من البهائم أصحى وأرزن وأكثر تأملاً منه، ومن المعلوم أن الرزانة والصحوة من خصائص النبهاء” ! وأنّه، كما يصفه مدني صالح: “نفس وحسّ ولحم ودم وعظم وعصب وشرايين وإرادة وقلب ومخ ومخيخ ونخاع شوكي ومرارة وكبد وله مثلما لي ولك أنت ولأرسطو ولأفلاطون ولجميع الجهابذة الأساطين أجهزة وأعضاء بايوفسلجية وجهاز عقلي وجملة عصبية وقوى وملكات يتذكر بها ويتخيّل ويتصوّر ويحب الحياة ويحافظ على البقاء ويقاوم الفناء ويتخذ الصبر الجميل خطة وموقفاً لحماية مواقعه التطورية الضعيفة ” ! .
وهنا لا يمكن الحديث عن غموض في كتابي، فما للإنسان للإنسان، وما للحمار للحمار، وليس ذلك بغامض، ولا عصي على القارئ النبيه !
العنوان المباشر
* يرى الكثير أنّ عنوان الكتاب لا يدل ولا يمت بصلة لفحواه، لماذا أخترته؟
– أرى عكس ذلك تماماً، فالعنوان مباشر، لأنّ الحدث الرئيس في الكتاب هو الكابوس، وكل ما جاء في الكتاب كان بسبب هذا الكابوس الذي مُسخ فيه البطل إلى حمار، ربما يرى هؤلاء أن الحمار الذي هو محتوى الكتاب، كان يجب أن يتصدر العنوان، ولا أخفيك سرّاً أنّ العنوان الأول للكتاب كان “جمهورية الحمير” غير أنّي وجدت أن اقتران ذلك بالنظام الجمهوري، أمر لا عدالة فيه، فلماذا لا يكون “مملكة الحمير” أو “سلطنة الحمير” أو “دولة الحمير” أو ” إمارة الحمير” ؟! لذلك عدلت عن هذا العنوان الذي يشير إلى شكل من أشكال الأنظمة السياسية، ليصبح عنواناً محايداً وموضوعياً ولا يحتمل التأويل، ومن الطريف أيضاً أنّ أحد الأصدقاء والزملاء الأعزاء، كتب لي وهو يذكر مسرحية شكسبير الهزلية الشهيرة “حلم ليلة صيف” فقلت له: لشكسبير حلمه، ولي كابوسي . لهم الأحلام، ولنا الكوابيس ! .. ويتذكر من قرأ “حلم ليلة صيف” أنّها قائمة على أسطورة يونانية، يعمل فيها الوزير على أن يجعل زوجة ملك الجان تقع في حب فلاح فقير، ثم يقوم بمسخ الفلاح إلى حمار ! . فليس الليلة وحدها، هي التي تجمع كابوسي مع حلم شكسبير، بل الإنسان الذي يتحول إلى حمار !! .
سأكشف لك الآن سراً، أعلنه لأول مرة أن شخصية أبو صماخ شخصية حقيقية، رجل كبير السن من خريجي قسم الفلسفة منتصف أو نهاية الخمسينيات، كان قد تعرض يوماً إلى كابوس شَعَر معه أنه مُسخ إلى حمار ! وعندما أعلمته بكتابي رجاني أن لا أعلن عن اسمه لأحد صراحةً ! الغريب أنّه لم يعر اهتماماً لصدور الكتاب، حتى أنّه لم يكن متحمساً للحصول على نسخة منه .. لا أدري، ربما ما زال متلبساً بكابوسه !
الفلسفة ضد اليأس
* ” بالله بلا فلسفة وكام يتفلسف”، جُمَل قد تقال كثيراً لمن يتحدث بضرورة الالتزام بالقانون والأخلاق، أين نحن الآن برأيك حتى بتنا نسمع هذه الجمل؟
– هذه العبارة الشعبية، التي طالما نسمعها، ليست وليدة الحاضر، فلها جذورها الفكرية والتاريخية، ولعلها بدأت منذ تلك الحقبة التاريخية التي صار فيها المنطق مرادفاً للزندقة، فصار يقال “من تمنطق تزندق” ! وهي الحقبة التي أعقبت الصراع الفكري الحاد بين الفلاسفة والفقهاء الذي انتهى بتهافت الفلاسفة بين يدي الغزالي، وأفول نجمهم، وخسارتهم لمواقعهم الاعتبارية، وحرق كتبهم علانية كما جرى لاحقاً في نكبة ابن رشد. هي باعتقادي عبارة موروثة منذ ذلك التاريخ المأساوي، وإن تعددت أشكالها وألفاظها.
ومن الغريب أن يكون استخدام الفلسفة مذموماً في قضايا الأخلاق والقانون، بينما الأخلاق لا تعني شيئاً من دون منهج علمي فلسفي، والقانون سيكون بلا روح من دون أساس منهجي فلسفي رصين. وهنا أشير إلى تعبير أستاذنا حسام محي الدين الالوسي، الذي قال قبل ربع قرن إنّ الفلسفة أصبحت جثة هامدة بانتظار من يدفنها ! وقد حدث الطوفان الذي تنبأ به مدني صالح، وحَّلَ الخراب .. لكن … ولأنّ الفلسفة تقارع اليأس دوماً وتصارعه حتى الرمق الأخير، وتنبعث دوماً من تحت الرماد، فإنّي أقول واثقاً مطمئناً: لا بدّ للفلسفة أن تنهض يوماً، بعد عصر الطوفان، وعصر الخراب، وسبات العقل، وانتعاش الخرافة !
* هل يمكن اعتبار الفلسفة نوعاً من أنواع المقاومة والنضال اليومي الذي يمارسه الفيلسوف لتصحيح المفاهيم المنحرفة ؟
– الفلسفة في جوهرها ذات طبيعة ثورية، ترفض الخنوع والرضوخ والمساومة، وهي فكر مقاوم للخمول والانغلاق والتّصحُر والتسطح والبلاهة والسخافة والسذاجة، مثلما هي مقاومة لخرافات العقل وأوهامه – كما فعل على سبيل المثال الفيلسوف التجريبي الانكليزي فرنسيس بيكون – في كشفه لأصنام العقل التي تعيقه عن التفكير السليم، والحُكم السليم، والمنطق السليم. لذلك لن نبتعد عن الصواب كثيراً إذا ما قلنا إن مهمة الفيلسوف الثورية الكبرى، أو نضاله اليومي مثلما تسميه، هي تصحيح المفاهيم المنحرفة واللاعقلانية التي تسود الفكر والتربية والأخلاق والسياسة والمجتمع . وهو تصحيح سلمي، يعتمد الاقناع لا الإرغام، والعقل لا القوة، والجدل لا الجمود، والمحبة لا الكراهية، لأنّ الفلسفة متى ما حملت السلاح، فإنها تتحوّل إلى ايديولوجيا سياسية – كما كان يردّد ذلك باستمرار أستاذنا حازم طالب مشتاق – وهو يدرسنا الفلسفة اليونانية قبل أكثر من أربعين عاماً .
النسخة الألكترونية من العدد 362
“أون لآين -5-”