ربيعُ نوروز وحكايات الموت

1٬329

رجاء خضير /

في عبّارة الموصل، عبّارة الموت الذي أتى واحتضن العشرات من الأبرياء، نحن نعلم أننا لا نموت مرة واحدة, ولكن في كل يوم لنا موت، وكأن الموت يغار من الفرح اذا ما زارنا يوماً، لذا تجده يشحذ همم القتل للإطباق على أرواح أبناء هذا الوطن المبتلى، من فاجعة جسر الأئمة الى سبايكر، الى السبايا من الإيزيديات،
وغيرها حتى فاجعة الموصل التي لم تتسبب بموت منْ كان على العبّارة فقط، وإنما فجعت الكثيرين من العراقيين الشرفاء سواء أكانوا في الفاو او دهوك او أي شبر من العراق.
فاجعة أخذت عشرات الأطفال والنساء والشباب وسرقت ضحكاتهم وأحلامهم قبل أن تتحقق..
حكاياتنا الآتية هي من رحم الفاجعة التي بكى عليها الزمان قبل أن يبكي الناس عليها، وهذه الحكايات تتشابه مع الكثيرين ممن كانوا فوق العبّارة.

الحكاية الأولى
أمي.. أمي.. لقد جمعتُ مبلغاً من مصروفي اليومي لأقدم لك هدية في عيدك الذي هو أغلى الأعياد عندي، عيد الأم، الذي سيصادف مع عيد نوروز يا أمي, وحلمتُ أن نركب القارب معاً، وأبي قد وعدني أن يذهب معنا احتفاءً بكِ يا أمي.
ابتسمت الأم وضمّتها الى صدرها, وبدأت بالتحضيرات لهذه السفرة, وذهبوا الى هناك حيث الموت يدعوهم، وفعلاً ركبوا القارب مع الجمع وبدلاً من استنشاق نسيم آذار استنشقوا رائحة الموت والسمك في الأعماق.

الحكاية الثانية
كانت تشتكي من إهمال زوجها لها ولعائلته, بينما معارفهم يهتمون بعوائلهم ويصطحبونهم الى المتنزهات والحدائق ليرفهوا عنهم قليلاً, قرر زوجها أن يفاجئهم بأعياد نوروز وعيد الأم باصطحابهم الى حيث أجمل مناطق الموصل, ذهبوا جميعاً الى هناك، وهم لا يصدقون! فرح أطفالهم ولعبوا هنا وهناك لتأتي مفاجأة أخرى لم يتوقعها الأطفال وأمهم, حينما أتى بتذاكر العبارة, أما هو فاعتذر لأنه يرغب بالذهاب الى أمه لتقديم التهاني لها، ودّعهم وعاد ولم يعرف وقتها أنه الوداع الأخير وأنه بيده حجز لهم تذاكر الموت!

الحكاية الثالثة
شعرت الأم بحرارة شديدة تجتاح جسدها ما اضطرها أن تحدث أطفالها بعدم الذهاب للاحتفال بأعياد الأم و نوروز، كما اتفقوا سابقاً, بكى الأطفال وتوسلوا الى والدهم أن يأتي معهم بدلاً من أمهم، لكنه اعتذر أيضاً بسبب خفارته في المستشفى الذي يعمل فيه. وأخيراً اقترح حلاً يرضي الجميع, هو أن يذهبوا مع عمتهم (شقيقته) التي ستأخذ أطفالها الى الجزيرة السياحية فهي حريصة عليهم كأطفالها، الأمر الذي طمأن الأم المريضة, وأعدّت لهم كل شيء من مأكل ومشرب ومضارب التنس وذهبوا.. ومع خطواتهم كان قلبها ينقبض ألماً ووجعاً. عادت ابنتها الصغيرة تبكي وتقول لأمها: لن أتركك يا أمي وأنتِ مريضة، ضحكت وضمّتها وقالت لها: ساعات وتأتون يا ابنتي، اذهبي واقضي معهم أوقاتاً سعيدة.. وذهبت ولم تعرف أنها دفعتها الى موت ينتظر الجميع.

الحكاية الرابعة
تميز في دراستهِ فوعده والده بأن يرتاح قليلاً قبل بدء الدراسة الجدية وامتحانات(البكلوريا) فهو في السادس العلمي, اقترح عليه أن يصطحب أصدقاءه في سفرة الى الجزيرة ليقضوا أمتع الأوقات, بعدها يمتنعون عن الخروج تمهيداً للامتحانات, شجعهُ والداه, تعلق به شقيقه الصغير كي يأخذه معه، لم يقبل بحجّة أنهم كبار وهو لا يقضي وقته في الاهتمام به, خرج مسرعاً بين دعوات أمه وأماني والده الذي أراده أن يدخل كلية الطب ليخفف عن كاهل المرضى والفقراء, هذا كان حلمه الأزلي.. الذي.. تلقى نبأ غرق العبارة وبدون أن يتأكد من غرق أبنه ماتت كل احلامه ومعها شلّت حركته نهائياً!!.

الحكاية الخامسة
جاءت من بغداد هي وأطفالها لتقضي عند أختها أعياد الربيع, ولحسن ضيافة أختها وفرحاً بقدومها دعتهم الى سفرة سياحية في الجزيرة والركوب بالعبّارة في نهر دجلة الخير, طار الأطفال فرحاً, رقصوا وغنوا استعداداً لهذا المشوار, ذهبوا الى هناك وتدافعوا للحصول على تذاكر الصعود على العبّارة, اعتذرت أمهاتهم عن الصعود بسبب الأمتعة التي معهم وينتظرون عودتهم ليفرشوا سفرة الطعام ولم يعرفا أنها ستكون فرشة الإنقاذ للكثيرين ولانتشال بعض الجثث.

الحكاية السادسة
أفلح أخيراً في إقناعها بالعودة الى دارهم في الموصل بعد غياب طويل عنه, ودّعت أهلها في بغداد، الذين وقفوا في صف زوجها بالعودة الى هناك, لاسيما وأن دائرته ألغت تنسيبه في بغداد, عادت غير سعيدة بهذه الخطوة, وكلما سألها زوجها عن سبب حزنها تقول لا أعرف مصدر كآبتي!
نصحها زوجها أن تهتم بطفلتها الصغيرة وحينما ستحل أعياد الربيع سيذهبون في سفرة ترفيهية من الصباح الباكر, لعبوا هناك وضحكوا، استبشر زوجها بما لاحظه عليها فأسرع وحجز تذاكر على العبّارة ليزيد من سعادتها، فرحا معاً وهما يصعدانها ويحتضنان طفلتيهما، لم يكن يعرف أنه حجز لموتهم السريع!!