رحلة العتّابي جمال في”داخل المكان”

399

يوسف المحمداوي /

يأخذنا جمال العتّابي في كتابه “داخل المكان” إلى معاناة قرى الجنوب العراقي في خمسينيات القرن الماضي، ثم يقفز بنا الى مدينة الحرية التي عاصرها -بعد أن تركوا الجنوب- وسكنوها.
وكما يقول الدكتور أحمد الزبيدي في مقدمته للكتاب: “ثمة تساؤل عن الهدف الثقافي من الكتابة عن المكان عند العتّابي، حاول الكاتب أن يعبر عن التحولات الثقافية في المجتمع العراقي المنعكسة على تحول مكاني أيضاً، وكأنه مؤمن بمقولة أمبرتو إيكو:(مالا يمكن تنظيره ينبغي سرده)، وكأن العتّابي مؤمن أيضاً بأن الذاكرة، قد تضعف، لكنها لا تموت!” بحسب قول الزبيدي.
الغازيّة والخبراء الروس
العتّابي في مؤلفه المتكون من (232) صفحة يفتتحه بموضوعة “الغازيّة تتكلم روسي”، والغازيّة هي منطقة النصر الحالية، ويدون المؤلف حال المنطقة التي تستعد لاستقبال الخبراء الروس القادمين من الشطرة، عبر طريق ترابي في الصوب الثاني من المدينة، مشيراً إلى أن الغازيّة في ذلك الزمن لم تكن تمتلك غير تلفون واحد فقط، هو تلفون دائرة البريد، والموظف الذي يعمل عليه، يقول عنه العتّابي، يختض من الصياح كي يلتقط الصوت القادم من الشطرة، وتكاد يداه لا تتوقفان عن تدوير مفتاح التلفون بحركة متواصلة سريعة، تشبه عملية تشغيل السيارة بـ(الهندر)، عندما تتوقف بطاريتها (بحسب وصف الكاتب).
يحتوي الكتاب المطبوع في مطبعة (الكتاب) -الصادر هذا العام- على (42) موضوعاً يبدأها بـ “الغازيّة تتكلم روسي”، ويختم الكتاب بـ “إذا قُدر للحيطان أن تنتحب”. وما يدهش القارئ هو توقد ذاكرة المؤلف وقدرته على سرد تفاصيل قديمة بدقة متناهية، وكأنها حدثت بالأمس القريب وليست في خمسينيات القرن الماضي، وهو بموضوعه الأخير يرثي بناية المتوسطة الغربية في باب المعظم، تلك القلعة المعرفية التي تخرّج فيها الكثير من المبدعين، وكأني بالمؤلف يقف قبالتها بعيون دامعة وهو يردد: “ها أنا أرثي مجدك المضاع، لأن الزمن لم يعد يأبه بالعلم والمدرسة!! فأي إرث هذا الذي تزمّين شفتيك كرهاً دون أن تموتي؟؟؟”
غريق وسط الطين
في موضوع “ليلة البحث عن رشيد عالي” يبحر بنا (العتّابي) في عامه الدراسي الأول(1958/59) في منطقة الرفاعي، لأن الغازيّة ليس فيها مدرسة تحتضن أبناء المنطقة، مبيناً أن الجميع كانوا يترقبون يوم الخميس من أجل العودة الى معبد الأمومة لليلة واحدة، سؤال كبير على منضدة الاستفسار يقول: ما علاقة العنوان بذهابه إلى المدرسة؟ ويأتي الجواب سريعاً وحاسماً: إنه بعد تعطل العجلة التي تقلّه إلى مدرسته أصبحت كالغريق وسط الطين وخيّم الليل عليهم، فكان لابد من منقذ، وجاء الإنقاذ من قبل سيارة الشرطة التي كانت تبحث عن الهارب رشيد عالي الكيلاني، الذي تشير الأخبار عن هروبه الى مناطق الجنوب ولجوئه لدى شيوخ تلك المناطق المناصرين لحركته، موضحاً “حين اقتربت سيارة الشرطة منا، صوت الرصاص استفز الحقول النائمة، والمطر الناعم الذي ركّد الأرض قبل سويعات، ترجل منها بضعة مسلحين مدججين بالبنادق، حاصرتنا الأسئلة، ودهشة العيون، اقتادونا إلى حوض السيارة الخلفي كأسرى، استدارت بحركة مجنونة لتنطلق بقوة نحو المدينة..
مقهى محمد المدهوش
بين المجموعة تعرفت على وجه صديق لوالدي، إنه المعلم أحمد، فاطمأن قلبي وسكنت روحي، سألته: ما الذي هداكم إلينا يا أستاذ؟ _ نحن في واجب يا ابني، احمدوا الله أنه كان السبب في إنقاذكم في هذا الليل المهلك، ونحن نبحث عن (المتآمر) رشيد عالي الكيلاني الذي هرب الى مدننا”، وهكذا جرى إنقاذ جمال التلميذ من محنة تعطل العجلة ليروي لوالدته -في الخميس التالي- ما حدث له في تلك الليلة المظلمة ليُفاجأ بجواب الأم: “وليدي، أبوك أيضاً كان في تلك الليلة يبحث عن رشيد عالي”.
المقهى الصغير في منطقة الغازيّة يصفه المؤلف “وكر يورث الأحزان، الغبار ينتهك زواياه المعتمة بالدخان”، رواد المقهى هم من المعلمين وأصحاب الحرف والمهن، وأصحاب الحوانيت المتواضعة، وفلاحي القرى المجاورة أثناء النهار. يصف الكاتب صاحب المقهى محمد المدهوش بالرجل المتواضع المتسم بالطيبة وحسن الاستقبال لرواد المقهى، الذين يتقاطرون عليه للاستماع الى آخر الأخبار عبر (راديون) بماركة (سيرا)، معلق على مسند خشبي ويعمل ببطارية استغنى عنها سائق السيارة الوحيد في المدينة كما يتذكرها (العتّابي) ويصفه قائلاً: “الراديو الملفوف بستارة بيضاء مطرزة بالدانتيل، هو الباعث الذي يغريني بالتأمل في هذا (الكائن الغريب)، وكأنه مصيدة سحرية تقتنص أسرار هذا العالم، الذي لا سبيل لإدراك أبعاده، وأنا أصغي لما يصدر من أصوات وموسيقى وغناء، كأنها تنثال من خفايا الماضي”.
ممشى المشاهير في بغداد
“نحاول أن نتشبث بالمخيلة حتى لو كانت بسعة الظل، حينما نراقب الأمكنة وهي على لائحة الموت، في انتظار الدفن”، هكذا يبدأ العتّابي في موضوعه “ممشى المشاهير في بغداد” والمقصود هو شارع الرشيد الذي يرثي مجده المضاع، بعد أن كان مقراً للشعراء والأدباء الكبار، وهذا الأمر نفذته الولايات المتحدة ودول أخرى في العالم. ويستشهد الكاتب بمدينة (مالمو) السويدية التي قامت بلديتها بتحويل جسر للمشاة الـــــــــــى متحف لأحـــــــــذية المشاهير من فنانين وأدباء وعلماء، وكذلك في أميركا، وبالتحديد كما يشير المؤلف في ولاية لوس أنجلس، بدأت فكرة الممشى عام 1959 لمشاهير النجوم في السينما والموسيقى والأدب والعلوم، بتثبيت نجمة خماسية على الأرض تحمل اسم الشهير، ويضرب الكاتب العديد من الأمثلة على ذلك ومنهم شارلي شابلن ورواد الفضاء ومحمد علي كلاي، الذي رفض أن توضع نجمته على الأرض، لئلا يطأ المارة اسم (محمد)، واحتراماً لرغبته وضعت نجمته على حائط مسرح كوداك.
جمال العتّابي في مؤلفه (داخل المكان) يقدم للقارئ مائدة شهية ومتنوعة من حيث الأمكنة التي جال فيها، أو الشخوص الذين عاصرهم من عامة الناس، أو المبدعين على مستوى الأدب والفن، فهو ينتقل بنا من نهر الغراف ومدنه الى مدينة الحرية في سرد متواصل عن المكتبات والمقاهي، وللأمانة نقولها إنها متعة ما بعدها متعة لإثراء المكتبة العراقية بهذا المنجز المهم.