رسائل الأدباء الكبار إلى الناشئين.. أوراق للمتاحف

601

سامر أنور /

لم يعد للرسائل الورقية وجود في عصرنا الراهن بعدما شاعت الاتصالات الناقلة مباشرة للصوت والصورة إلى أي مكان على الكرة الأرضية، أصبحت الرسائل الإلكترونية البديلة جملاً معدودة للإبلاغ لا غير، يتم تسلمها والرد عليها خلال مدة لا تتجاوز الدقيقة الواحدة. وبذلك لم يعد المرسل يجلس لساعات إلى طاولته ليصوغ رسائل تحتاج إلى أيام، وربما شهور، لتصل، ثم ليأتي الجواب. لهذا كان كاتبها يجد ضرورة في اختيار المفردات بدقة، وحبك الجمل بتأن، وعرض الأفكار بترتيب، والتعبير عن المشاعر بحميمية، فالرسالة منتظرة بشوق، وستقرأ بشغف، وستودع في صندوق الذكريات، فالرسائل المتميّزة تقرأ من وقت لآخر، لهذا كان صائغها يقوم بهذا الفعل بجدية.
رسائل جبران ومي
رسائل الأدباء وثيقة هامة، فإضافة إلى قيمتها، كإرث مادي مكتوب بيد شخصية مشهورة، قد تصرح بما لا يفصح الأديب عنه في أعماله الموجهة الى القراء بشكل مباشر، فالرسالة تبعث إلى صديق مقرب تستودع عنده الأسرار، لهذا يسرح القلم على الورق على سجيته فيبوح بما يتكتم عليه في العلن.
لكن في عصر وسائل الاتصال السريعة، خسر الأدب ما يعرف بأدب الرسائل. أما أشهر الرسائل المتبادلة بين الأدباء العرب فكانت بين اللبناني المجدد (جبران خليل جبران) 1883- 1931، والرائدة الفلسطينية (مي زيادة) 1886- 1941 اللذين جمعتهما الرسائل، ولم تجمعهما الأيام، فتحدثا عن الأدب والحياة بكتابات ترقى لأن تكون مقالات أدبية من الطراز الرفيع.
رسائل النصائح المفيدة
هناك نوع من الرسائل يكتبها الأدباء المشهورون إلى الناشئين من الأدباء الذين يطلبون المشورة، لكن قلة منهم يقبلون على كتابة هذا النوع من الرسائل، فأغلبهم لا يرغبون في القيام بدور المعلم، أو لا يجدون الوقت الكافي لذلك. أما إذا كتب بعضهم تلك الرسائل فإلى مريد مقرب يثقون بموهبته، ويتوقعون له مستقبلاً أدبياً مشرقاً.
كتب هذا النوع من الرسائل الكاتب الروسي الكبير (أنطون تشيخوف) 1860- 1904، الذي يعد من مؤسسي وأساتذة القصة القصيرة في العالم- وهؤلاء لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. وعلى الرغم من ذلك كان يقرأ باهتمام رسائل الكاتب الشاب (مكسيم جوركي) 1868- 1936، ويتابع قصصه في الصحف، ويسدي إليه النصائح عند الضرورة. استمرت المراسلات بينهما لمدة خمس سنوات تقريباً، وانتهت بوفاة الأستاذ، وبقي المجتهد (جوركي) يواصل الكتابة دون إغفال النصائح القيمة حتى أصبح أحد أهم كتاب القصة والرواية والمسرحية في العالم.
رسالة تشيخوف إلى جوركي
عندما تقرأ مسودات الطبع لرسائل تشيخوف الى جوركي، احذف -ما أمكنك ذلك- النعوت والظروف، إنها كثيرة عندك حتى ليضل فيها انتباه القارئ ويتولاه التعب منها.
إن المرء يفهمني عندما أقول: “جلس الرجل على العشب.” إنه يفهم ذلك لأنه جلي واضح ولأنه لا يعيق الانتباه. وخلافاً لهذا، فإني أغدو غامضاً وأرهق القارئ إذا ما صرخت: “على العشب الأخضر الذي وطأته أقدام المارة، جلس رجل كبير، ضيق الصدر، ذو قامة معتدلة، ولحية حمراء، جلس دون جلبة، ملقياً على ما حوله نظرات فيها الحياء والخوف.” إن هذا لا ينطبع في الذهن دفعة واحدة، لكن الأدب يجب أن يرتسم فيه دفعة واحدة وفي ثانية من الزمن.
قدم تشيخوف رؤيته في كتابة القصة بطريقة موجزة وبسيطة، فبعد إيجاد الموضوع وتحديد الفكرة، يجب أن يكون السرد مكثفاً، فكل جملة يمكن الاستغناء عنها مجرد حشو، لا مبرر للاحتفاظ بها. إضافة إلى أن الحدث يجب أن يكون واضحاً، وبالنتيجة ستكون الشخصيات غير معقدة، وذلك كي يفهم المتلقي النص منذ القراءة الأولى، دون الحاجة للعودة إلى النص مرة أخرى، أو التفكير في المعنى المراد. فالقصة القصيرة الناجحة تصل المتلقي دفعة واحدة، من وجهة النظر التشيخوفية.

رسائل النصائح المنسية
على الرغم من أن القاص والمسرحي (وليم سارويان) 1908ـ 1981 لم يقم بدور مؤسس في تاريخ القصة القصيرة -كتشيخوف-، لكنه يعد من أبرز الكتاب الأمريكيين في القرن العشرين، إذ تتميز كتاباته المعنية بالإنسان المسحوق المهمش، بأنها لا تخلو من التفاؤل، كما تضج بالحياة والإحساس المرهف. لهذا يمكن أن تعد رسائله مفيدة لكتاب القصة القصيرة أيضاً، فـ(سارويان) كاتب جيد بالفعل، ونصائحه جديرة بالأخذ بعين الاعتبار، وإن ظل الكاتب الناشئ الذي وجهت إليه الرسائل مغفلاً، ويبدو أنه لم يستفد من النصائح الذي بذلها الكاتب المعروف.
رسالة سارويان إلى مجهول
“إن حسنة النثر الأولى أن يكون واضحاً وسلسلاً. ينبغي أن يفهم القارئ قصدك بالتحديد مهما كان قصدك معقداً، فإن كنت لا تعرف بالضبط ماذا تعني- وكثيرا ما يحس الكاتب بإحساس قوي ومع ذلك يجد صعوبة في التعبير عن هذا الإحساس بوضوح- وفي هذه الحالة عليك أن تقول للقارئ أنك لا تعرف بالتحديد معنى ما تريد قوله. وإلا فعليك ألا تعبر عما لا يمكن التعبير عنه بنثر سهل. ولكن ليس معنى هذا أن تظل تردد في قصتك أنك لا تعرف بالضبط ما تعنيه، بل عليك في مثل تلك الحالة أن توحي بذلك، والإيحاء لا يأتي بصورة مباشرة، بل بشكل ضمني.”
نلحظ أن رأي (سارويان) يتطابق مع رأي (تشيخوف) بنسبة عالية، فهو ينصح الكاتب بضرورة أن يكون أسلوبه واضحاً، وأفكاره خالية من التعقيد. لكنه يبحث في نقطة لم يتطرق إليها (تشيخوف)، وهي عندما يريد الكاتب التعبير عن أفكار ومشاعر معينة ولكن لا يسعفه أسلوبه في ذلك. ونرجح أن (تشيخوف) لم يطرح هذا الموضوع لترجيحه أن الكاتب الحقيقي لا تعترضه تلك العقبة لأنه محترف، يستطيع الكتابة عن كل الموضوعات بالتمكن ذاته. ثم يقترح (سارويان) ألا يهرب الكاتب من تلك الموضوعات العصية على الترويض، بل يحاول الاقتراب منها ولو بالتلميح والإشارة.
رسائل تكشف أسرار الإبداع
ليست رسائل الأدباء التي يتحدثون فيها عن أسلوبهم في الكتابة، أو ما يجب أن يكون عليه أسلوب طالب المشورة، خاصة بالأدباء فقط، أو حتى النقاد. بل إن القارئ غير المختص يستطيع الاستفادة منها لفهم المؤلفين بطريقة أفضل، ولاستيعاب أعمالهم كما أراد كاتبها أن تكون في أذهان القراء.