رشيد مجيد الصورة بين رؤيتين.. الفوتوغرافية والشعــــر

930

جاسم عاصي /

رشيد مجيد.. إنسان مسكون بالإبداع. لذا وجدناه ونحن نترعرع معه في مدينة صغيرة نسبياً كمساحة مكانية، وواسعة من اعتبارات ما أنتجته من بنى حضارية ومعرفية. ففي حياته ومستوى إحساسه بالفن والأدب والمعرفة شكّل مصدراً للإلهام وتطوراً لكل ما من شأنه حمل بذرة تنتظر الرعاية.
شاعر شديد الحساسية الشعرية، كثّف رؤاه لما وعاه وأدركه في حركة التاريخين: الخاص والعام، فقد انعكس على ملَكته الشعرية ذات الاهتمام الذي واكبه وهو يؤسس لمنحى فوتوغرافي متميّز على قلته. إذ اهتم بتعميق طبيعة حِرفة التصوير واختيارات الكاميرا، وله في ذلك آراء مهمة، استمدها أساساً من طبيعة تخصصه الهندسي الجيولوجي، فأسبغ هذا على فنه سِمة الحساسية وتملّكه إحساس إدراك الأهم عبر ملاحقته وتجسيده لخصائص الأرض صورياً. لذا كانت الصورة لديه مقلّة، لكنها على المستوى الفني غنية بوحداتها ومناحيها وخصائصها الذاتية. فيوم شاهدنا صورته على هيأة بورتريت كانت أقرب إلى النحت على الخشب مصوّرة، لذلك برز مثل هذا التوجه في حياته الفنية مبكراً. لكننا عرفناه خلال صحبتنا معه، فبورتريته الشخصي المحفور بعناية فنية صورية، جسّد ملامح الوجه بتقسيمات تشكيلية (كرافيك). وقتها عرّفنا الفنان (فائق حسن) عن هذا الفن الذي سيكون له شأن في التشكيل العراقي، وفعلاً تخصص فائق بذلك، أثناء وجوده في إسبانيا. كان (رشيد مجيد) جادّا في كل شيء، متحمساً حد الانفعال، وهو يقرأ الشعر، ويتحدث، ويطرح وجهات نظره. لكنه كثير التأمل في وحدته وانفراده مع شعره وفنه حتى أثناء وجوده مع صحبه. لا تهمه تصنيفات الأجيال، بل أنه مجايل للكل. في شعره نكهة التحمس للتاريخ، يعيد إنشاد الشعر السومري بلغته الشعرية، بمعنى يُساير جينياته الشعرية، فنجده يقترب في شعره عبر تحميل الشعر بطاقة الموروث، وذكر المسميات مبكراً. ينحو منحىً ثورياً حين يكون قريباً شعرياً من شخصية الإمام الحسين(ع)، وحصراً من تحوّلات (الحر الرياحي)، فله حَوليّة ملحمية لم ينصفها الزمن.
ستوديو رشيد والزمن الشعري
حين تقول ستوديو رشيد، فإنك تُشير إلى مكان متميّز، حيث يمر أمامه كل من يقصد السوق الكبير في مدينة الناصرية. فهو مكان يلتقي فيه (الشاعر المصوّر) مع ذاته. وإن زاره البعض من الأصدقاء، فيتوجب عليه أن يتحول إلى أذن صاغية وبتركيز إلى ما يقرأ ( أبو عماد) من جديد شعره، الذي هو على شكل مطولات، يحفظها حال تأليفه لها، يُلقيها بنمط الأداء المسرحي، بنقلات حماسية وانفعال واضح، حد احمرار بشرة وجهه ولمعان جبينه. ويشاهد كل من يدخل إلى الأستوديو، بضع صوَر معلقة، تتميّز بالأناقة ورفعة الفن واتقان الحرفة والشاعرية، فهو مبكراً زاوج بين رؤى الشعر ورؤى الفوتو، ما دفعه إلى إنتاج قليل من العيّنات، لكنها تحمل سمات مهمة ومتقدمة في فن التصوير، لقد جدد كثيراً فن البورتريت، لأنه مانح للملَكة النفسية وجودها المعنوي، يجد في الوجه رؤى نفسية تُعينه على فهم الخاصية الذاتية للنموذج، وبعد دراسة لها، تأخذه وحدات هذا النموذج من ضوء وظِل وزاوية اللقطة، كي يُحسن حيازة لقطة لافتة للنظر، بما تحمله من خصائص ذاتية وموضوعية.
رشيد مجيد ورأس سيّدنا الحسين
مصادفة وأنا أمر كعادتي كل يوم على الستوديو في ستينات القرن المنصرم، شاهدت الواجهة تحتلها صورة مدهشة. لم أستطع معرفتها بالكامل لقربها وتداخل ملامحها في نظري، ابتعدت نحو المقترب الثاني المقابل للستوديو، وأخذت أفحص الصورة عن بُعد، حيث بانت واضحة لي، ومن موجوداتها، عرفت أنها صورة لرأس الحسين(ع). كانت الرقبة محزوزه تواً، تخثر الدم في نهايات عروقها فمنعه من التدفق، رأس حاسر وشعر مسترسل، وذقن ذي شعيرات قليلة يمكن عدّها، وشارب قليل الخيوط المنسابة بعفوية، وجنتان تعلوان تقعّرين أعلى الفم، وفم دقيق جميل الانسياب، عينان مغلقتان برموش غير قصيرة نسبياً، وجبهة مدماة، تحتلها بقعة تخثر الدم عليها، بينما انتشرت نقاط دم حولها، وانساب مسيل رفيع حتى العينين. كان رأسه وسمات وجهه تحملان سمات السيّد المسيح(ع). وقفت طويلاً متسمّراً على الرصيف، وقد دام هذا طويلاً حتى أفقت من هول الصدمة المرئية شواهدها. سارعت للدخول إلى الستوديو، فوجدته يجلس متأملاً في الفراغ الممتلئ، نهض وحيّاني، وحين سألت دون مقدمات أجابني: أنه حصل على (النيكَتف) من إيطاليا، فأعاد استنساخه وتكبير الصورة. قلت له: إن هذه الصورة لا تشبه الصوَر التي اعتدنا رؤيتها في العزاءات الحسينية؟! أجابني: إنها النسخة الأصلية التي رسمها الراهب أثناء مبيت القافلة وهي في طريقها إلى الشام، إنها صورة لمنحوتة أصلية. سألته: والأخرى؟ أجاب: إنها من صنع خيال فنان فطري فارسي، فعاجلت بالسؤال: وهذه؟ فاستدرك على عجالة وبانفعال: إنه نحتها بإحساس صوفي خالص، مزج بين رؤيته المسيحية، ورأس ذي قدسية إنسانية قبل كل شيء، لقد تحقق الحلول الصوفي في ذات الراهب.
ودارت الأزمنة، وتكثفت لديّ إثر تطوّر معارفي، أن احتجت للصورة وأنا البعيد عن مدينتي لكي أكتب بحثاً رؤيوياً حول الصورة. لكن الزمن قرّب الشاعر مني أثناء تنظيم جلسة لأدباء الناصرية وأنا من ضمنهم في سبعينات القرن الفائت، فحضرت وشاركت مع صاحبي ورائدي (رشيد مجيد) مستحضراً سنوات انصرمت، وحين خلوت معه سألته عن حاجتي لنسخة من صورة رأس الحسين لحاجتي الماسّة لدراستها ومقارنتها برأس السيّد المسيح الذي حصلت على صورة لرأسه من المكتبة المعمدانية في عمّان، نظر إلي بعمق ثم أجاب: لقد صادرتها دائرة الأمن بعد مرور يومين من مشاهدتك لها، أخذوا جميع الصوَر مع (النَكَتف)؟؟!!
هذه الصوَر الجميلة والفذّة؛ هي كل ما تبقى لنا من زمن تهالك وانسحق مع أشياء وتاريخ طويل، لكن (رشيد مجيد) باقٍ بصورته الفذة، وشعريته الصاعدة، وفنه الأخّاذ والرصين، فكلما شاءت الصدف في زيارة المدينة، أمرّ على المكان، فلا أرى سوى ستوديو(رشيد مجيد) وفيَّ رغبة للدخول، غير أني اصطدم بما حل بديلاً عنه من عمارة، لم تمحُ أثر المكان الأول، لأنه مزروع في ذاكرة نشطة، فردية وجمعية.