رفعت الجادرجي ما بين نصب الحرية ووجع المنفى
#خليك_بالبيت
مجلة الشبكة العراقية /
إيمانه العميق بفنّه ورسالته ورؤيته للحقيقة جعلت منه منبع إلهام لكلّ من درس فن العمارة. نهل الجادرجي من رموز عمارة الحداثة منتصف القرن العشرين، لكنّ واقع عبقريته وظّف تلك الحداثة بطابع محلي، اشتهرت مبانيه بواجهاتها التي تستخدم الطابوق العراقي (الآجر) والتكوينات التجريدية والأشكال التي تشبه الشناشيل في البيت العراقي التقليدي، فأصبح ينظر لأعماله كأنّها منحوتة فنية مجرّدة حسب مفهومه، وهو ما يصفه وليم كيرتس في كتابه بالإنجليزية (العمارة الحديثة منذ 1900) بأنّه نوعٌ من تجسير الهوّة بين المظاهر التحررية في الحداثة العالمية والقيم الأساسية التي تلمسها في تقاليد عمارة الطابوق في بلاده التي تتحدّر جذورها من (عمارة المنطقة القديمة) من الجوامع الأولى إلى الزقورات القديمة في أور ونينوى.
شيخ المعماريين
ترك الجادرجي العشرات من التصاميم المعمارية؛ نفّذ بعضاً منها في العراق وبعض الدول العربية، لقب بشيخ المعماريين العراقيين، إذ لم يكتفِ بمنجزه المعماري، بل وثّق أسسه النظرية وترك إرثاً نظرياً ثرّاً عن عمارته في عدد من الكتب التي نشرها في حياته. توّج منجزه المعماري بحصوله على جائزة أغا خان للعمارة عام 1986. كما انتخب عضو شرف في المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين 1982 والمعهد الأميركي للمعماريين عام 1987، ومنحته جامعة كوفنتري البريطانية دكتوراه فخرية عن مجمل منجزه التصميمي المعماري.
مشوار العطاء
ولد رفعت كامل رفعت الجادرجي في بغداد عام 1926 في عائلة ذات توجه يساري، فوالده هو السياسي والصحفي والوزير كامل الجادرجي مؤسّس الحزب الوطني الديمقراطي، وأشقاؤه هم نصير الجادرجي وباسل ويقظان وأمينة. وقد تزوّج من الناشطة الشيوعية بلقيس شرارة ، وهي من مواليد مدينة النجف عام 1933، والحاصلة على بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة بغداد عام 1956. ولم ينجبا أطفالاً لرفضهما فكرة إنجاب الأطفال. كان الجادرجي أحد الشركاء في مكتب الاستشاري العراقي في بغداد. وأكمل شهادة البكالوريوس في العمارة من جامعة هامر سميث عام 1954. ومن أعمالهِ مبنى الاتحاد العام للصناعات، ومبنى نقابة العمّال، ومبنى البدالة الرئيسة في السنك، ومبنى البرلمان العراقي. ولهُ أعمالٌ فنيةٌ أخرى فهو المصمّم للقاعدة التي علّق عليها الفنان جواد سليم نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد كما أنّه صمّم نصب الجندي المجهول الأول في عقد الستينيات من القرن العشرين في ساحة الفردوس. وصمّم أيضا العلم العراقي الأزرق المثير للجدل الذي لم يعتمد. ومن أهم مؤلفاته، شارع طه وهامر سميث، جدار بين ظلمتين، صورة أب، ملف 12 لرسوم معمارية، ملف 8 لتصاوير كامل الجادرجي، مفاهيم ومؤثرات، نحو هندسة معمارية إقليمية، الاخيضر والقصر البلوري، نشوء النظرية الجدلية في العمارة، التصوير الفوتوغرافي لكامل الجادرجي، حوار في بنيوية الفن والعمارة، مقدمة إلى التصميم الحضري والهندسة المعمارية في لبنان.
جدار بين ظلمتين
ربّما لا يعرف البعض أنّ هذا المعماري الكبير قد زُجَّ في السجن وسط اللصوص والمجرمين دون أي مبرّر سوى تهمة ملفّقة من رئيس المخابرات العراقية في زمن أحمد حسن البكر، الذي كان موظفا صغيرا في مطار بغداد، التهمة هي تخريب الاقتصاد الوطني العراقي والتعامل مع شركة بريطانية، رغم أنّه صاحب مكتب استشاري كان يعد ثاني أكبر مكتب في الشرق الأوسط، هذا ما رواه الجادرجي في كتابه (جدار بين ظلمتين) الذي يتحدّث فيه عن الفترة التي قضاها في السجن، اعتقل الجادرجي عام 1978 وبقي في سجن أبو غريب لمدة 20 شهراً قبل أن يُطلَق سراحه بطريقة مؤثرة، فعندما كان العراق يستعد لاستضافة مؤتمر عدم الانحياز طلب صدام حسين حينها مقابلة أشهر المعماريين لتكليفهِ بإعادة التنظيم العمراني لبعض الأماكن في بغداد، وأخبر صدام بوجود أشهر المعماريين في السجن، فأمر بإطلاق سراح الجادرجي عام 1980 ليتفرّغ للمهمة. وبعد ثلاثة أعوام على خروجه من السجن، غادر العراق عام 1983 إلى بيروت وبريطانيا التي أقام فيها بقية حياته، الغريب في الأمر أنّ من أمر بإطلاق سراح الجادرجي من السجن هو نفسه الذي أمر بهدم نصب الجندي المجهول الذي صمّمه الجادرجي.
خيبة أمل
حين عاد الجادرجي مع زوجته الكاتبة بلقيس شرارة إلى العراق عام 2009، خيّبت البلاد آماله بشكل كبير وصدم بما رأه، وقال حينها: (لا أصدّق ما الذي جرى، لقد تحوّل كل شيء إلى خراب تقريبا، لقد تعرّض العراق لغزوات ولم يستقر منذ فترات طويلة وهذا ما ينعكس باستمرار على التفاصيل الحياتية والعمرانية)، أحزنته تلك الرحلة كثيرا بمجرد رؤية ما حدث للعراق، وما أصبح عليه شارع الرشيد في بغداد، كان كافياً كي يعود إلى لندن حتى وافاه الأجل بسبب إصابته بفايروس كورونا في العاشر من نيسان 2020 عن عمر 93 عاما.